وجهات نظر

إحلال اليوان محل الدولار أم بناء نظام نقدي جديد؟

يتصوّر البعض أنّ بناء نظام نقديّ دوليّ جديد يتّسم بالعدالة ويستند على أسس موضوعية لا بد وأن يُفضي إلى اختيار عملة احتياط دولية جديدة تسوي بها مختلف دول العالم تعاملاتها في التجارة والخدمات. وهذا الخيار أقرب لاستبدال غول أصفر أو أسود بالغول الأبيض، وهو لا يعني في جوهره أيّ إصلاح للنظام النقدي الدولي الفاسد والمختلّ في الوقت الراهن، والذي يُمكّن حفنة من الدول على رأسها الولايات المتحدة من الإثراء على حساب العالم باستخدام وضعية عملاتها كعملات احتياط دولية.

إحلال اليوان محل الدولار أم بناء نظام نقدي جديد؟

يطرح البعض على مستوى الأفراد والدول، اليوان الصيني كعملة بديلة يمكّنها أن تشغل الموقع الحالي للدولار الأمريكي كعملة احتياط دولية. ويستند ذلك الطرح على توفر العوامل الرئيسية لإسناد اليوان في هذا الدور العالمي.

وأول تلك العوامل يتمثّل في امتلاك الصين لاحتياطيات ضخمة من العملات الحرّة تعادل أكثر من 3,2 تريليون دولار، يضاف إليها نحو 0,5 تريليون دولار احتياطيات هونج كونج الصينية ليصبح المجموع 3,7 تريليون دولار، مقارنةً بنحو 1,4 تريليون دولار لليابان، ونحو 1,1 تريليون دولار لسويسرا، ونحو 0,6 تريليون دولار للهند ومثلها لروسيا، ونحو 0,3 تريليون دولار لألمانيا، وأقل من ما يعادل 0,3 تريليون دولار احتياطيات الولايات المتحدة الأمريكية من العملات الحرّة.

كما أنّ اليوان معزّز باحتياطي ذهبي صيني يبلغ 2330 طنًا تعادل نحو 158 مليار دولار وفقًا لآخر سعر للذهب في الأسواق العالمية، مقارنةً باحتياطيات ذهبية أمريكية تبلغ 8133 طنًا تعادل نحو 553 مليار دولار، واحتياطيات ألمانية تبلغ 3355 طنًا تعادل نحو 228 مليار دولار، واحتياطيات ذهبية يابانية تبلغ 846 طنًا تعادل نحو 58 مليار دولار. ولو جمعنا الاحتياطيات من العملات الحرّة والذهب فإن احتياطيات الصين بدون هونج كونج تعادل 3363 مليار دولار، مقارنةً بنحو 1458 مليار دولار لليابان، وما يعادل 853 مليار دولار للولايات المتحدة، ونحو 528 مليار دولار لألمانيا.

هل سيختلف سلوك بكين عن واشنطن إذا أصبح اليوان عملة الاحتياط الدولية؟

كذلك فإنّ اليوان الصيني معزّز بفوائض ضخمة في الميزان التجاري وميزان الحساب الجاري الصيني. ووفقًا لتقرير إحصاءات التجارة العالمية الصادر عن منظمة التجارة العالمية (World Trade Statistical Review 2022) بلغت قيمة الفائض التجاري الصيني عام 2021 نحو 675 مليار دولار، مقارنةً بعجز تجاري أمريكي بلغ 1181 مليار دولار، وعجز تجاري ياباني بلغ نحو 13 مليار دولار، وفائض تجاري ألماني بلغ نحو 212 مليار دولار في العام نفسه. أما ميزان الحساب الجاري الصيني فقد أسفر وفقًا لتقرير آفاق الاقتصاد العالمي (World Economic Outlook, April 2023) عن فائض بلغ نحو 2,3% من الناتج اللمحلي الإجمالي عام 2022، مقارنةً بعجز أمريكي بلغ نحو -3,6%، وفائض ياباني بلغ 2,1%، وفائض ألماني بلغ 4,2% من الناتج المحلي الإجمالي في العام المذكور.

فهل تعني كل تلك البيانات أنّ اليوان مؤهل لشغل مكانة عملة الاحتياط الدولية بدلًا من الدولار؟. الحقيقة أنّ هذا الطرح ليس سوى إعادة إنتاج للسياسة النقدية العالمية الراهنة وغير العادلة نفسها، والتي أفضت إلى تمكين الولايات المتحدة من نهب العالم مقابل مجرد أوراق نقدية ليس لها غطاء ذهبي أو إنتاجي. والمدهش أنّ من يتبنّون هذا الطرح يتوقعون الحصول على نتائج مغايرة من إعادة إنتاج سياسة نقدية عالمية فاسدة!.

إنّ الثورة الحقيقية لإصلاح النظام النقدي الدولي لا بد أن تقوم على استبعاد إخضاع العالم لسطوة أيّ عملة لأي دولة، سواء كانت الصين أو الولايات المتحدة أو أوروبا. فالأمر الحتمي هو أنّ أيّ دولة ستملك عملة الاحتياط الدولية ستفعل ما تفعله الولايات المتحدة من استغلال ونهب العالم مقابل مجرد أوراق نقدية، سواء كان لها غطاء ذهبي أو إنتاجي في وقت من الأوقات، أو أصبحت عارية منهما بعد ذلك.

وحدة حقوق السحب الخاصة SDR.. تكرّس هيمنة الدولار

هناك بديل آخر يتم طرحه للنظام النقدي الراهن وهو الاعتماد في تسوية التعاملات التجارية الدولية على وحدة حقوق السحب الخاصة SDR وهي العملة الحسابية لصندوق النقد الدولي باعتبارها عملة مرجعية يمكن قياس كل العملات على أساسها، لكن تذبذب أسعار عملات الغالبية الساحقة من البلدان النامية تجاه وحدة حقوق السحب الخاصة يجعل استخدامها كعملة مرجعية غير منطقي طالما ظلّت عملات البلدان النامية تتذبذب في مدى واسع. كما أنّ مكونات تلك العملة الحسابية عبارة عن: 41,43% دولار أمريكي، 30,93% يورو، 10,92 يوان صيني، 8,33% ين ياباني، 8,9% جنيه استرليني.

وهذا البديل يكرّس هيمنة الدولار مع مجموعة العملات المذكورة، ويمكّن الدول صاحبة تلك العملات من استغلال وضعيتها كعملات احتياط دولية في الإثراء على حساب العالم. كما أنّ الحصص النسبية للعملات الرئيسية في وحدة حقوق السحب الخاصة بعيدة كليًا عن العدالة وعن الاتساق مع الحقائق المتعلقة بحصص الدول صاحبة تلك العملات من الناتج العالمي ومن الصادرات العالمية، والمتعلقة أيضًا بعجز أو فوائض موازينها الخارجية التجارية والخدمية والجارية.

تسوية الشركاء لتعاملاتهم بعملاتهم وأسس النظام النقدي الدولي العادل

يطرح البعض تسوية التعاملات بين أيّ دولتين بعملتيهما، وهو طرح يحلق في الخيال وبعيد عن الواقعية طالما ظلّت عملات البلدان النامية تتذبذب بصورة كبيرة ويتعرض البعض منها لانهيارات أو تغيّرات كبرى في أسعارها وقدراتها الشرائية في الأجل القصير، لأنّ تسوية التعاملات التجارية الدولية من خلالها لن يكون عادلًا أو مقبولًا. كما أنّ تحقيق بعض الدول النامية لعجز دائم في موازينها التجارية يعني أنّ حصيلتها من عملات شركائها التجاريين لن يكون كافيًا أبدًا لتمويل وارداتها منهم.

فعلى سبيل المثال بلغت قيمة صادرات مصر للصين نحو 1361 مليون دولار في العام المالي 2021/2022، بينما بلغت قيمة واردات مصر من الصين في العام نفسه نحو 9745 مليون دولار، أيّ أنّ هناك عجزًا تجاريًا مصريًا في التجارة مع الصين قيمته 8384 مليون دولار في العام المذكور. ولو أرادت الدولتان إخراج الدولار من معادلة تسوية المعاملات التجارية بينهما واستخدام عملتي الدولتين بدلًا منه فإنّ سقف تطبيق هذا التوجّه سيتحدّد بقدر حصيلة صادرات مصر للصين، بينما سيكون على مصر تسديد قيمة عجزها التجاري مع الصين باليوان الصيني من خلال الاستدانة، أو بعملة دولية أخرى. وهنا تبرز أهمية العامل الإنتاجي قبل وفوق العوامل النقدية، فقدرة اقتصاد أيّ دولة على إنتاج السلع والخدمات وتلبية الاحتياجات الاجتماعية الداخلية وتحقيق التوازن في التجارة السلعية والخدمية مع الدول الأخرى، يخلق ظروفًا موضوعية لنجاح استخدام عملتي الدولتين في تسوية التعاملات التجارية بينهما طالما أنها ستكون تجارة متوازنة بشكل تقريبي وليست مختلة بشدة لصالح إحدى الدولتين كما هو الحال في المثال المذكور آنفًا.

للخروج من عباءة نظام الصرف الحرّ... وحرمان الولايات المتحدة من استخدام الدولار بشكل لصوصي

إذن ما هو البديل العادل لبناء نظام نقدي دولي جديد وعادل؟؛ تكمن الإجابة على هذا التساؤل في ضرورة تغيير الدول الراغبة في إحداث هذا التغيير لنظم الصرف لديها والخروج من عباءة نظام الصرف الحرّ الذي يجعل سعر صرف العملة شديد التذبذب وألعوبة في أيدي المضاربين في الكثير من الأحيان، والتوجّه بدلًا من ذلك إلى نظام التسعير التحكمي الثابت كما هو الحال بالنسبة لعملات دول الخليج، أو التسعير التحكمي المتغيّر الذي يتغيّر في حدود ضيقة 2,5% صعودًا أو هبوطًا، أو نظام التسعير المدار (التعويم المدار) الذي يتغيّر في الحدود نفسها، وذلك حتى يضمن الشركاء التجاريين احتفاظ حصيلة صادراتهم من عملات شركائهم التجاريين بقدرتها الشرائية.

كما يضمن للمستثمرين من الدولتين استقرار الحسابات المستقبلية التي يقوم عليها أي استثمار جديد، ويضمن للسياح من الدولتين الحفاظ على القدرة الشرائية لأموالهم التي ينفقونها في الرحلات السياحية بين الدولتين. وحتى لو أرادت أيّ دولة إجراء تغيير كبير في سعر صرف عملتها فإنّ عليها في تلك الحالة أن تحوّل مديونيتها لشركائها إلى عملاتهم المستقرة أو إلى عملة دولية تتّسم بالثبات والجدارة، على أن تبدأ تسوية التعاملات الجديدة وفقًا لسعر الصرف الجديد الذي ينبغي أن يكون ثابتًا أو محدود التغيير بشكل مدار لمدة زمنية لا تقلّ عن سنة.

وفي كل الأحوال فإنّ تعزيز القدرات الإنتاجية الضرورية لتحقيق أيّ دولة للتوازن في تجارتها السلعية والخدمية مع الدول الأخرى في إطار علاقات تجارية دولية عادلة يُعدّ عاملًا حاسمًا لمعالجة تعقيدات استخدام العملات المحلية في تسوية الالتزمات التجارية بين أيّ دولتين. وتلك الأمور الفنية أو التقنية في إدارة تعامل أي دولتين بعملتيهما في تسوية المعاملات التجارية بينهما يمكن ترتيبها لو توفّرت الإرادة السياسية للخروج من عباءة الدولار وحرمان الولايات المتحدة من استخدامه بشكل لصوصي في نهب سلع وخدمات العالم مقابل مجرد أوراق بلا غطاء ذهبي أو إنتاجي. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن