محصلة هذه اللقاءات قد تعني اهتمامًا أمريكيًا كبيرًا بالسودان والأوضاع الكارثية في هذا البلد، لكن من ناحية عملية فإنّ تأثير هذه الجهود والتصريحات على حالة الحرب في السودان تكاد لا تُذكر، بمثلما كانت نتائج جولة مفاوضات جنيف.
لم يتم التحضير جيدًا لمفاوضات جنيف والأوضاع في السودان لن تحتمل الانتظار لفترة طويلة
كان الرهان الأمريكي منصبًا على مفاوضات جنيف التي اعتبرتها واشنطن امتدادًا لمفاوضات منبر جدّة التي توقفت نهاية العام الماضي، وتم تحديد منتصف شهر أغسطس الماضي موعدًا لها، لكن من الواضح أنّ التحضير لها لم يكن كافيًا، فقد قاطعتها الحكومة السودانية، بينما حضر وفد قوات "الدعم السريع" منفردًا. ولم يعد أمام وفود الوسطاء والمراقبين سوى التركيز على موضوع إيصال المساعدات الإنسانية وقتح الممرات الآمنة وهو ما نجحوا فيه جزئيًا.
لم يتم التحضير جيدًا لمفاوضات جنيف وقبل وقت كافٍ، واكتفت واشنطن بالتصريحات المنتشرة في الإعلام، وعندما اكتشفت في اللحظات الأخيرة أنّ الجولة لن تنجح وأنّ الخرطوم ترفض المشاركة سارعت لعقد لقاءات في جدة والقاهرة، لكنها لم تفلح في حلحلة العقبات أمام حضور ومشاركة الجيش السوداني، رغم التنازلات الشكلية التي قدمتها.
أظن أنّ واشنطن قد تحركت في هذا الملف بثقة زائدة، وربما لم تشرك الوسطاء الآخرين في عملية التحضير وتجهير الملفات، رغم تجاربهم وخبراتهم السابقة، ومن قبلها إجراء الاتصالات الأولية السابقة للإعلان عن الجولة وتفاصيلها. وكانت هناك أسئلة ينبغي بحثها وتجهيز الإجابات عليها، مثل لماذا جنيف وليس جدة، وحول طبيعة وتوصيف طرفي التفاوض وتحدبد الأجندة بدقة. لو تم هذا الأمر مسبقًا فربما كان الوسطاء يملكون إجابات مسبقة حول موقف الأطراف من عملية التفاوض نفسها وأجندتها، وعلموا قبل وقت كافٍ إن كانت كل الأطراف ستحضر أم لا. لو حدث هذا وتم الإعلان عن إلغاء الجولة أو تأجيلها، أو حتى حصر الأجندة في الجوانب الإنسانية لكان مظهر الوسطاء أفضل مما ظهر.
المهم أنه قد تم حصر التفاوض في الجانب الإنساني، وتم إشراك الحكومة السودانية عبر وسائل التواصل الإلكتروني، وتم الاتفاق على فتح بعض المعابر، ثم انفضت الجولة دون تحديد مواعيد أخرى، وليس في الأفق ما ينبئ بإمكان استئنافها قريبًا.
بعد أسابيع قليلة ستدخل أمريكا في معمعة الانتخابات الرئاسية، وستكون كل القضايا والأوضاع الخارجية في مؤخرة سلم الأولويات، وحتى لو أتيح قدر من الوقت للاهتمام بقضايا عالمية، فهناك أوكرانيا وغزّة والعلاقات مع روسيا والصين وإيران... وقائمة طويلة من الأولويات لن يكون السودان من ضمنها، بالتأكيد. ثم بعد ظهور نتيجة الانتخابات فإنّ الرئيس الجديد، سواء كان دونالد ترامب أو كامالا هاريس، سيحتاج إلى وقت طويل لترتيب أوراقه وتعيين الإدارة الجديدة في الوظائف القيادية، ولن يأتي وقت الوظائف المساعدة إلا بعد أشهر طويلة.
من المؤكد أنّ الأوضاع في السودان لن تحتمل الانتظار لفترة طويلة، ولهذا فإنّ المهتمين بالملف السوداني أمام خيارين لا ثالث لهما، الأول هو تسريع الجهود الآن وتكثيف الاتصالات لمحاولة عقد جولة مفاوضات عاجلة لبحث وقف إطلاق النار لفترة طويلة، ومن ثم البحث في بقية القضايا، والثاني هو أن تتراجع الولايات المتحدة قليلًا، وتترك لمجموعة الوسطاء الذين تجمعوا في تحالف (آلبس) أن يختاروا طريقًا بديلًا، وربما منهجية جديدة لمقاربة الوضع في السودان.
ليس للولايات المتحدة رؤية محددة لما يجب عمله لذلك الواجب الآن التفكير في عودة منبر التفاوض إلى جدة
بدأ التفاوض في مدينة جدة السعودية في مايو 2023 بعد ثلاثة أسابيع من بدء الحرب، تحت رعاية سعودية أمريكية، وكان إشراك الولايات المتحدة دون غيرها لأنها كبيرة العالم، ولأنّ وجودها يعني بالضرورة وجود دعم أوروبي - غربي للتفاوض، وبما تملكه الولايات المتحدة من إمكانيات في كل المجالات اللوجستية والأمنية والعسكرية بحيث تكون قادرة على المساهمة في تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه.
لكن ثبت كذلك أنه ليس للولايات المتحدة رؤية محددة لما يجب عمله، بجانب الإنشغال الذي تحدثنا عنه بسب الانتخابات. لذلك الواجب الآن هو فيادة جماعية من تحالف (آلبس) والتفكير حتى في عودة منبر التفاوض إلى جدة، وانخراط الدول المهتمة بالأوضاع في السودان في السعي لإحياء عملية التفاوض، ولتكن الولايات المتحدة على اطلاع ومتابعة للملف ولمجريات التفاوض حتى تفرغ من انتخاباتها.
(خاص "عروبة 22")