من نتائج هذه الصّرامة التّي وٌصفت بالتشدّد، منذ اعتمادها سنة 1922 إلى غاية هذا التاريخ، ازدياد مؤشرات الأوضاع المالية سوءًا، مما وضع البنوك المركزية أمام تحدّيات مركّبة، خاصة انخفاض أسعار الفائدة العالمية ذات الأجل الطويل وخيار دعم الأسواق المالية النشيطة في الاقتصادات العالمية.
هذا يعني أنّ السيّاسة النقدية المقيّدة بتشدّد تقني بحت ستعرّض الاقتصاد العالمي إلى خطر الانكماش بدرجات جدّ مرتفعة، وتُؤشّر على ركود وشيك وأزمات اقتصادية؛ لأنّ الإتّجاه نحو انخفاض الأسعار يدفع الناس إلى تأجيل الشّراء تطلّعًا إلى أسعار أقل. وفي النتيجة، سينخفض الإنفاق ويلحق أضرارًا بدخل الإنتاج ممّا يؤدّي إلى البطالة وارتفاع أسعار الفائدة.
لا بدّ من تجديد دور الدولة في تحفيز النمو ارتباطًا بالقطاع الخاص وإحداث ثورة جذرية في المنظومة التعليمية
سيكون لهذه التداعيات العالمية وقع على الاقتصاد العربي وستؤثّر على إيقاع النموّ خلال السنتين القادمتين تأثّرًا بتباطؤ النموّ في الاقتصادات الكبرى. لذلك، بات ضروريًا إبداع سياسات مالية ونقدية عربيّة مُقوِّيّة لشرط التعافي الاقتصادي تفاديًا لتوقّع معدّل أقلّ من 3 في المائة في السّنتين الآتيتين وهو أقلّ من معدّل النموّ الذي حقّقه الاقتصاد العربي قبل الجائحة.
لتطويق هذه المخاطر التي تحيق بالاقتصاد العربي، لا بدّ من تجديد دور الدولة في تحفيز النمو ارتباطًا بالقطاع الخاص وإحداث ثورة جذرية في المنظومة التعليمية العربية التّي استنفدت أدوارها وباتت عاجزة عن مواكبة التحديات التكنولوجية المتسارعة.
إنّ تجديد هذا الدور سيؤسّس لضوابط التعافي من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، لأنّ الدولة أصل تنظيم التشريعات ورعايتها وسنّ السياسات الضريبية النّاجعة كمعالجة عوائق تطبيق الضرائب على الاقتصاد الرّقمي وإمكانات الإستفادة من التّطبيقات الرّقمية في تأهيل الإدارة الضريبية والخدمات.
تتحدّد خصوصية السيّاسة المالية في كونها إحدى رافعات السيّاسة الاقتصادية التّي تنقل الدولة إلى دور "الفاعل الاجتماعي الشّمولي" وتمكّنها من الحضور الفعّال في تطبيق سياستها الاجتماعية والاقتصادية الرّامية إلى رفع مستوى معيشة الأفراد ورفاههم. لذلك، يعتبر مطلب مراجعة السياسة المالية العربية ضروريًا، بالرّغم من الجهود المبذولة، لفتح آفاق جديدة لتشجيع النموّ الاحتوائي وتثبيت الاستقرار الاقتصادي لمواجهة كل أشكال الركود ومخاطره.
الوعاء الإستراتيجي العربي يجعل من إيجاد نموذج تنموي تحدّيًا مركزيًا لتذويب مشاكل الخصوصيات
لعلّه من المفيد، في هذا السياق وضع استراتيجية دقيقة وشاملة تربط بين السياسة المالية ومراحل التعافي الاقتصادي على نحو يُمكّن من انتعاش الدّورة الاقتصادية وتعزيز مرونة الأوضاع المالية بما يخدم مستويات العرض والطلب. ولن يتأتّى هذا إلاّ عبر مدخل زيادة الإنفاق الحكومي وتشجيع الاستثمار والاستهلاك.
صحيح أنّ هناك ظروفًا خاصة بكل دولة عربية تتمثّل في مستوى إمكانات النموّ الاقتصادي وإيقاعات التّنمية والمستوى المالي والحَوْكَمي والبشري، ولكن الوعاء الإستراتيجي العربي، الجامع المرتبط بالتّكامل الاقتصادي كما ألمحت إليه كثير من التقارير والدراسات، ومنها التقرير الأخير لصندوق النّقد العربي، يجعل من إيجاد نموذج تنموي عربي جديد تحدّيًا مركزيًا لتذويب مشاكل هذه الخصوصيات المتفاوتة. وهذا يتطلب أوّلًا، في المدى المتوسّط التّركيز على تحسين أداء الإيرادات لدعم الدوّل العربية التي تعاني من ضيق الحيّز المالي ومساعدتها على التعافي الاقتصادي.
ولئن كانت جهود الإصلاح تختلف من بلاد عربية إلى أخرى، فإنه بات من الضروري وضع إطار إصلاحي شامل يستقطب التجارب العربية الناجحة في التدبير الأمثل للإيرادات والنّفقات العامة بهدف تحقيق الاستدامة المالية وتعزيز الموازنة العامة في المنظور القريب.
(خاص "عروبة 22")