اقتصاد ومال

"العِلْم" ومعركة فلسطين ولبنان.. من يسلك درب محمد علي؟

تجلت قيمة وقوة وقسوة العلم في المعركة الوجودية الدائرة رحاها في فلسطين المحتلة ولبنان المقاوم. وبدا العلم آلة رهيبة للقوة تتصادم منتجاتها بين الغرب والكيان الصهيوني من جهة، وإيران الصاعدة في مجال العلوم العسكرية والتي دخلت إلى درب التطور العلمي والتقني السريع بالتعاون مع كوريا الشمالية وروسيا والصين من جهة أخرى. وبالمقابل تقف الدول العربية في موقف المتفرج البائس على تلك المباراة العلمية حيث ما زالت تعتمد في غالبيتها الساحقة على استيراد تقنيات الدرجة الثانية والأسلحة الغربية التي يمكن أن تتحوّل إلى قنابل ضد حائزيها العرب لو دخلوا في أي صدام مع الغرب وكيانه المجرم المزروع اغتصابًا في قلب الوطن العربي، كما توحي مجزرة أجهزة الاتصال في لبنان.

تتجلى حقائق البؤس العلمي والتقني للبلدان العربية في اعتمادها على استيراد غالبية احتياجاتها من السلع ومكونات السلع الصناعية العادية والعالية التقنية، وكل احتياجاتها الرئيسية من طائرات ودبابات وسفن حربية وصواريخ ووسائل اتصال وغيرها من الأسلحة. وتتجلى أيضًا في الإنفاق الهامشي المزري على البحث والتطوير العلميين والذي بلغ 0,7% من الناتج المحلي الإجمالي العربي، مقارنةً بالمتوسط العالمي (2,7%)، وبالمتوسط في الدول الأوروبية (2,3%)، وبالولايات المتحدة (3,5%)، وبالمتوسط في مجموع دول الدخل المتوسط والمنخفض (1,6%).

نحو 27,2 مليار دولار إنفاق الكيان الصهيوني على البحث والتطوير بزيادة نحو 6,2 مليار دولار على مجموع الدول العربية

ولو أردنا التفصيل أكثر فإنّ هناك دولًا تكاد لا تنفق شيئًا على البحث والتطوير العلميين مثل موريتانيا (0,01%)، وسورية (0,02%)، والعراق (0,04%). ويقل ذلك الإنفاق عن 0,5% من الناتج المحلي الإجمالي في باقي الدول العربية باستثناء الإمارات (1,5%)، ومصر (0,91%)، وتونس (0,75%)، وقطر (0,68%)، والمغرب (0,66%)، والجزائر (0,53%). وبلغ مجموع الإنفاق العربي على البحث والتطوير العلميين نحو 21 مليار دولار تذهب غالبيتها للإنفاق على الجهاز الإداري لمؤسسات البحث العلمي وليس لتمويل الأبحاث وإبداع التقنيات المدنية والعسكرية الجديدة، مقارنةً بنحو 27,2 مليار دولار للكيان الصهيوني بزيادة نحو 6,2 مليار دولار على مجموع الدول العربية!!

السعي للتقدم العلمي.. تهافت النظم الراهنة وجسارة محمد علي وناصر

لو قارنا المستوى البائس لإدراك النظم السياسية الحاكمة في البلدان العربية لأهمية الاعتماد على الذات في التطوير العلمي والتقني والسعي للحاق بالدول المتقدمة كقضية وجود ومكانة ومنافسة، بمستوى إدراك وفعل حاكم مثل محمد علي الذي حكم مصر قبل أكثر من قرنين من الزمان، سنكتشف هوة هائلة بينهما.

جسّد محمد علي إدراكه في إرسال البعثات العلمية للبلدان الأكثر تقدّمًا آنذاك لا ليستقروا في الخارج، بل يعودوا لبناء تقدّم بلادهم. واقتحام الصناعة التحويلية المدنية والعسكرية في كل المجالات المعروفة آنذاك تقريبًا، بما جعل مصر تدخل إلى درب التطور الصناعي الحديث مدنيًا وعسكريًا سابقةً لليابان التي بدأت تجربة التصنيع بعد ذلك بخمسة عقود، وسابقةً لكل دول شرق وجنوب شرق آسيا، وشرق وجنوب شرق أوروبا وبعض الدول في غربها ووسطها.

وشرع محمد علي في بناء صناعة عسكرية كبيرة لتعتمد مصر على نفسها في تسليح الجيش، فبنى ترسانة القلعة وضمنها مصنع صب المدافع من عيار أربعة وثمانية أرطال، ومدافع الهاون ذات الثماني بوصات، ومدافع قطرها 24 بوصة. ومصانع للبنادق ولمستلزمات سلاح الفرسان وألواح النحاس المستخدم كدروع السفن، ومصنع للبنادق من مختلف الأنواع والأشكال في الحوض المرصود. كما طوّر ترسانة بولاق لصناعة السفن عام 1810. كما أنشأ الترسانة البحرية في الإسكندرية وبها 5 أحواض جافة لبناء وصيانة السفن، وورش وأقسام لصناعة كل مكونات ومكملات السفن الحربية والتجارية. وقد صنع في تلك الترسانة 8 بوارج كبرى أسميت "مصر"، و"عكا"، و"حمص"، و"المنصورة"، و"المحلة الكبرى"، و"الإسكندرية"، و"حلب"، و"دمشق"، فضلًا عن زوارق الكورفيت وسفن لمدافع الهاون، وأخرى لنقل أخشاب السواري.

ثمرة العلم.. تفوّق كاسح لمحمد علي في مواجهة تركيا

تمكن الجيش المصري بقيادة قائده الفذ إبراهيم باشا ابن محمد علي والمسلّح بإنتاج مصانع وترسانات مصر، من سحق الدولة العثمانية في حرب عام 1832 في عدد من المعارك أهمها معارك حمص، وبيلان، وقونيه (ديسمبر 1832) التي تم خلالها أسر رشيد باشا قائد الجيش التركي مع 6000 من قواده وضباطه وجنوده مع قتل نحو 3 آلاف جندي وضابط تركي، مقابل استشهاد نحو 262 عسكريًا مصريًا وجرح 530 منهم، حسب المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي الذي تُعزِز روايته تفاصيل صلح كوتاهية في 8 أبريل عام 1833 الذي منح مصر بقيادة محمد علي حكم بلاد الشام وجزيرة كريت والحجاز وإقليم أضنه التركي مقابل انسحاب الجيش المصري من باقي بلاد الأناضول التركية.

النخب الحاكمة في البلدان العربية يمكنها قراءة الثمن الفادح والمدمّر للتخلّف العلمي والتبعية للغرب الفاشي

وقد نقضت الدولة العثمانية ذلك الصلح فيما بعد بتحريض ألماني وبريطاني مما أدى لنشوب الحرب الثانية بين مصر وتركيا، والتي كانت ذروتها هي معركة نصيبين عام 1839 التي سجلت مصر فيها نصرًا ساحقًا على تركيا التي انهار جيشها كليًا وانفتح الطريق أمام الجيش المصري للسيطرة على كل تركيا التي استسلم أسطولها بكامل هيئته وعديده البالغ 21 ألف جندي في الإسكندرية. وقد أذهلت تلك الانتصارات المصرية، الدول الأوروبية الكبرى، وقامت بريطانيا بتشكيل تحالف ضمها مع روسيا والنمسا وبروسيا إضافة إلى تركيا لمواجهة مصر سياسيًا وعسكريًا. وتوجهت أساطيل تلك الدول لمحاصرة الإسكندرية توطئةً لغزو مصر التي كان جيشها في معظمه يحتل تركيا وموزعًا في بلاد الشام والحجاز. وتمكن التحالف الأوروبي الضخم من كسر محاولة محمد علي لبناء دولة كبرى في المشرق العربي، حيث تم فرض معاهدة لندن لعام 1840 عليه، وتلاها تطبيق الاتفاق العثماني-الإنجليزي القاضي بفتح أسواق تركيا والدول التابعة لها أمام البضائع الإنجليزية بسقف جمركي 3% مما أدى لتخريب الصناعات المصرية الناشئة.

صحيح أنّ النخب الحاكمة في البلدان العربية لا تملك جسارة محمد علي، لكنها على الأقل يمكنها قراءة الثمن الفادح والمدمّر للتخلّف العلمي والتبعية للغرب الفاشي، كي تحاول بهدوء وبشكل منظم ومخطط لتجاوز التخلف العلمي. وإذا لم يكن ذلك من باب حماية الأوطان والشعوب ورفع إنتاجية الاقتصاد، فإنه على الأقل آلة السلطة لتحسين أوضاعها وحماية دولتها وإحكام سيطرتها!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن