"الخوف" قصة قصيرة يقدّم فيها الأديب الكبير نجيب محفوظ صورة حارة عتيقة كانت ترزح تحت بلطجة جماعة الفتوات، فتحوّلت إلى مجتمعٍ ذليلٍ مهان، يبحث كلُ أفراده عن السلامة الخاصة، والخلاص الفردي، استنامت الحارة تحت تلك العيشة، في انتظار تدخل السماء، حتى ظهر البطل المرتقب، والمخلّص المنتظر، الضابط الشجاع أبو قلب حديد "عثمان الجلالي".
تنبئنا أحوالنا اليوم أنّ الاستبداد هو النتيجة الطبيعية للمجتمع الخانع الذي يبيع حريته لقاء أمنه
يبدأ "الجلالي" في الضرب بيدٍ من حديد على الفتوات وسط إعجاب وتشجيع أهل الحارة، الذين راحوا يتغنون بتصديه لتلك الجماعة التي حاولت أن تسيطر بالبلطجة على الحارة، وعلى قلب "نعيمة"، التي كلما حلَّ على الحارة بلطجي راح يتقرب إلى "نوارة" المنطقة، التي ما فتئت يأتيها الخطاب، فتوةٌ من بعد فتوة، كلُهم يطلب يدها، ليأخذها لنفسه.
يظهر "الجلالي" المخلّص فيقضي على سلطة الفتوات والبلطجية، وينفرد وحده بالقوة، ويتسلطن على كرسي الفتوة، ويتوحد معه، ثم يتحول خطوة وراء أخرى إلى فتوة جديد أشد بطشًا، فيطمع - كما طمع البلطجية من قبل - في أن يأخذ "نعيمة" لنفسه، من دون شريك.
من قبل كتب عبد الرحمن الكواكبي أنّ "الخوف هو روح الاستبداد"، هو الشراب الرسمي للطغاة الذين "يعلمون يقينًا أنّ الخوف إذا ما استبد بالنفوس يجعل قابليتها للاستسلام مؤكدة، وسيرها في ركب الاستبداد محتمة".
وحسب الكواكبي فإنّ المستبد يستمد قوته من ضعف شعبه، لا يتطاول في استبداده بغير معاونة المحيطين به، رجال وأشباه الرجال، والدمى البشرية التي يحركها كما يشاء، لا تحرص على شيء قدر حرصها على المنفعة الشخصية والمصالح الخاصة.
تنبئنا أحوالنا اليوم، كما أنبأتنا من قبل التجارب التاريخية أنّ الاستبداد هو النتيجة الطبيعية للمجتمع الخانع، الذي يخشى دفع ضريبة الكرامة، يبيع حريته لقاء أمنه، وهي الحالة التي يصفها محفوظ في قوله: "سألت شيخي: متى يصلُح حال البلد؟، فأجاب: عندما يؤمن أهلُها بأن عاقبة الجبن أوخمُ من عاقبة السلامة".
يبدأ الأمر مع تنازل المجموع عن إرادته طواعيةً لإرادة فرد يرى فيه المخلّص الذي سرعان ما يستفحل أمره، بعدما يشتد عوده، ليعود الشعب يكابد الأمريْن من هذا الذي تصوره في يوم من الأيام منقذًا فإذا به يصحو على مرحلة استعباد تمت باسم الرضا الشعبي، وعنوانها الوحيد هو مستبد جديد.
السؤال الذي يترك نجيب محفوظ إجابته لفطنة قارئ قصة "الخوف" هو: هل حصلت "نعيمة" على حريتها حين تخلصت من الفتوات لينفرد بها الفتوة الأوحد.
قصة قصيرة أخرى كتبها "باولو كويهلو" بعنوان "المشنقة" تحكي عن بلدة كانت طيبة، والناس فيها على خير حال، يفعل مواطنوها ما يحلو لهم، تسير الأمور فيما بينهم على أفضل ما يكون، لم يكن بالسجن أحد، ففكروا أن يجعلوه متحفًا.
كان الجميع مرتاحًا لحياة خالية من "الخوف"، باستثناء العمدة، الذي ظل يبحث عن السيطرة فلا يجدها، وظل همه الأول أن يخترع السلطة، فبادر إلى سن عدد من القوانين العبثية التي تجاهلها الناس وانصرفوا عنها، فتفتق خبث العمدة عن الحل السحري.
جلب عددًا من العمال من البلدان المجاورة، وأعطاهم أوامر ببدء العمل على الفور في الميدان الرئيسي للبلدة، بعد أن أحاطوا أنفسهم بأكسية ضخمة من القماش بحيث لا يزعجهم في عملهم أحد، والواقع أن أحدًا لم يهتم بما يصنعون.
حتى جاء موعد الافتتاح، جرت دعوة المواطنين لحضور الحفل الذي كان مهيبًا، وسط فضول متزايد من المواطنين أزاح العمدة الستار عن العمل الجديد.. إنها مشنقة.
لاقت المشنقة استحسان الجمهور، وكان الحبل الذي يتدلى منها مزدانًا بقطعة حديدٍ لامعة، لم يعلق العمدة بكلمة، وبدورِهم آثر المواطنون الاكتفاء بالمشاهدة، وانفض الاحتفال، وانصرفوا.
لم يمضِ وقتٌ طويل حتى تزايدت الهمهمة، وتعددت الأسئلة عن سبب وجود المشنقة، وبدأ الخوف يتسرب إلى قلوب الناس، وانقلب حال البلدة التي كانت مطمئنة، استطالت طوابير الانتظار أمام كاتب العدل أطول من طوابير الخبز، شرع الناس في تسجيل كل المستندات التي كانوا فيما مضى يستغنون عنها بكلمة الشرف، وشهادة الشهود.
بدأ القاضي في الذهاب إلى المحكمة مرتين في الأسبوع، ثم كل يوم، ثم في فترة الظهيرة، ثم عيّن مساعدين، وبدأ الناس يتقربون إلى العمدة، ويتزلفون له، ويستشيرونه في أمور القانون وغيرها، خشية أن يقعوا في مساءلة قانونية.
تقول القصة: إن المشنقة لم تستخدم قط، لكن وجودها في الميدان كان كفيلًا بتغيير كل شيء.
الاستبداد هو مشروب الطغاة الرسمي وهو وسيلة بقائهم على كراسي السلطة
تنتهي القصة وتستمر الحياة على منوالها، صاحب الرياسة يتحكم في الناس بإشاعة الخوف بينهم، بتفريقهم وراء مصالحهم الذاتية، بإيقاظ روح المصلحة الشخصية وتنميتها على حساب المصلحة العامة، كل فرد يقول نفسي أولًا، وهكذا استطاع أن يتحكم فيهم أكثر، وأن يستذلهم أكثر.
هو الخنوع؛ فيه حياة الاستبداد، واستعباد المواطنين، هو مشروب الطغاة الرسمي، وهو وسيلة بقائهم على كراسي السلطة، وهو سبب تسلطنهم فوق مقاعد التسلط، وصدق الكواكبي ومحفوظ وكويهلو حين رأوا ببصيرة نافذة أننا بـ"الخنوع نصنع مستبدينا"!.
(خاص "عروبة 22")