شهد العالم أيديولوجيات كثيرة "مُحصنة" مثل الشيوعية والقومية، وعرف أيضًا "حصانات" معاصرة للأيديولوجيات الدينية والاشتراكية، وعرفنا في عالمنا العربي حصانة لنظم صاغت "خلطة" من الأفكار الوطنية والاشتراكية والدينية لم تصمد كثيرًا أمام التحديات الإقليمية والدولية ولم تنجز شيئًا يُذكر في ساحة السياسة والاقتصاد.
وقد مثلت "أيديولوجية المقاومة" في عالمنا العربي وخاصة في فلسطين ولبنان واحدة من الأيديولوجيات التي راجت في السنوات الأخيرة ونالت كثيرًا من الدعم والمعارضة، بحيث نجحت في عام ٢٠٠٠ في تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي بدور رئيسي لـ"حزب الله" وبدعم من مختلف القوى السياسية والدينية في داخل لبنان وخارجه، كما أصبحت حركة "حماس" الطرف المسيطر على قطاع غزّة بعد صدام دموي مع حركة "فتح" في ٢٠٠٧ وحتى عملية ٧ أكتوبر.
لا يمكن اعتبار أيديولوجيا المقاومة كافية لتجعل حسابات كل فصيل واحدة بمعزل عن واقعه المحلي وسياقه
ظل شعار المقاومة وأيديولوجيتها مرفوعًا في لبنان حتى بعد تحرير الجنوب وحدثت تحت رايته مواجهة ٢٠٠٦ بين إسرائيل و"حزب الله" واستمرت حتى الحرب الحالية.
وقد امتلك "حزب الله" بنية عقائدية صلبة ساعدته على الصمود في وجه التفوق التكنولوجي الإسرائيلي كما أنه قدّم تضحيات كبيرة من أجل القضية الفلسطينية، بينما أيديولوجيته ليست تكفيرية وتتبنى خيار "المقاومة" بصورة جعلته يضع نفسه في وضع أقرب لسلطة وليس مجرد فصيل مقاوم، فأرسل قواته إلى سوريا وحارب لصالح نظام ثبت أنه لم يكن موجودًا لا في "الممانعة" ولا "الاعتدال" وغاب عن كل المعادلات الإقليمية وكان أحد الأسباب لانكشاف الحزب واختراقه.
أيديولوجيا المقاومة صنعت بنية تنظيمية قوية وعناصر عقائدية مؤمنة في غالبيتها العظمى بما تقوم به وقدّمت شهداء وتضحيات، ولكنها لم ترَ جيدًا الواقع المحلي والدولي لأنها تبنت أيديولوجيا لا ترى الأفراد والمواطنين نتيجة تبني أيديولوجيا عقائدية كلية قائمة على الأفكار الكبرى وما تعتبره أهدافًا سامية ونبيلة في دعم المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولكنها تعاملت باستعلاء مع المواطن الفرد.
أيديولوجيا المقاومة رفعت شعار "وحدة الساحات" الذي انطلق من فكرة عقائدية كبرى تعتبر أنّ خيارات أحزاب المقاومة في أي مكان وفي أي سياق وفي أي توقيت واحدة نظرًا لوجود الرابط الأيديولوجي الواحد الذي يجمعها وهو مقاومة إسرائيل، وتجاهل تقديرات الأفراد في كل بلد وفي كل سياق وخاصة في لبنان الذي لم يكن مع الدخول في حرب مع إسرائيل ولم يقتنع أغلب أفراده بشعار "وحدة الساحات".
إنّ الرابطة العقائدية والأيديولوجية لا تكفي بمفردها لكي يقرر الجميع في التوقيت نفسه محاربة إسرائيل إنما هناك حسابات داخلية وإقليمية تجعل هذا الخيار ليس واحدًا، وتجعل شعار "وحدة الساحات" غير قابل للتطبيق في الواقع العملي لأنه لا يمكن اعتبار أيديولوجيا المقاومة التي تجمع "حزب الله" و"حماس" و"الجهاد الإسلامي" وفصائل المقاومة في اليمن والعراق كافية لتجعل حسابات كل فصيل واحدة بمعزل عن واقعه المحلي وسياقه.
لا يجب لأي تنظيم عقائدي مهما كان لونه أن ينفصل عن حاضنته الشعبية وسياقه المجتمعي، باسم المقاومة أو العقيدة أو الوطنية أو أي أيديولوجيا أخرى.
إنّ خيار المقاومة المسلحة في الأراضي الفلسطينية المحتلة خيار مشروع طالما ظل هناك احتلال كما فعل "حزب الله" في لبنان حين قاد معركة المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي للجنوب عام 2000 وانتصر وكان محل إجماع محلي وعربي. أما البلاد الغير محتلة أراضيها فإنّ تضامنها ودعمها للشعب الفلسطيني لا يعني بالضرورة الانخراط في مواجهة مسلحة معها إنما يكتفي بالدعم المادي والمعنوي ويواجه دولة الاحتلال قانونيًا وسياسيًا في كل مكان في العالم وهو أمر لا زال غير متحقق.
اختلاف الساحات والحسابات ليس نقيصة ولا يجب فرض أيديولوجية على مجتمع وتجاهل حسابات وتقديرات الأفراد لمجرد أنّ الهدف الذي تتبناه هدف نبيل وهو مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
أيديولوجيا المقاومة في لبنان تحتاج لمراجعة جراحية لأدائها
لقد ارتكبت دولة الاحتلال جرائم يومية في لبنان وتتعمد استهداف المدنيين ودمرت مباني سكنية تعلم جيدًا أنها مدنية، ولذا فإنّ صمود المقاومة رغم كل الضربات التي وجهت لها مصدر اعتزاز وفخر، وإنه ليس مطلوبًا أن يتخلى "حزب الله" عن أيديولوجيته المقاومة إنما أن يضعها في سياق واقعها المجتمعي المعاش، بحيث تعتبر أن توجهاتها وممارستها رهن بتوجهات وخيارات الأفراد الذين هم غالبية المواطنين اللبنانيين.
أيديولوجيا المقاومة في لبنان تحتاج لمراجعة جراحية لأدائها طوال الفترة التي سبقت المواجهة مع إسرائيل أو أدت إليها دون أن تتخلى بالضرورة عن جوهر رسالتها السياسية.
(خاص "عروبة 22")