كتاب على قدر وافٍ من الحيادية يدور محوره حول أمة العرب، سُطّر بقلم مستعرب ياباني أمضى ما يقارب الأربعين عاماً من عمره بين أبنائها وعشائرها، ويرى أن (عشرته) الطويلة تلك تعطيه نصيبا من الحق في التحدث وبصدق عن قوم ألفهم وألفوه، كما كان يقول: «أنني أعطيت القضية العربية عمري كله، فمن حقي -ربما- أن أقول شيئاً».
لا يتحدث المستعرب نوبوأكي نوتوهارا (1940) في مقدمة كتابه عن نفسه كثيراً، فيكتفي بعرض مسيرته مع اللغة العربية، والتي ابتدأها عام 1961 حين افتتحت جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية قسماً للدراسات العربية فيها، فالتحق به وتخرج بعد أربع سنوات. عمل بعد تخرجه كأستاذ مساعد في الجامعة ليحصل بعد عدة أعوام على منحة خاصة من الحكومة المصرية للالتحاق بجامعة القاهرة كطالب مستمع، حيث استهل هناك ابداعه الحقيقي من خلال الانكباب على القراءة والكتابة والترجمة، بالإضافة إلى انخراطه مع الفلاحين في الدلتا. يتوّج مسيرته بعد ذلك بالارتحال إلى بادية الشام ومعاشرة البدو ردحاً من الزمان، في تجربة غنية لم يعايشها من قبل كياباني تخلو أرض آبائه من بادية. يسترجع نوتوهارا في خاتمة كتابه وبحميمية ذكرياته مع أصدقاء مسيرته الذين يكنّ لهم الكثير من الاعتزاز في مصر واليمن وسوريا والمغرب، وتجمعه بهم روابط مشتركة وذكريات دافئة رغم بون ثقافة مختلفة لا تشبهه في شيء!.تعتمد هذه المراجعة لكتاب (العرب: وجهة نظر يابانية) على طبعته الأولى الصادرة من منشورات الجمل عام 2003، والتي يتطرق فيها الكاتب إلى سبعة مواضيع رئيسية في بلاد العرب. فيُثني على جمال الأدب العربي الذي تعلّمه وعلّمه ويطري عدد من الأدباء العرب، ويتحدث بإسهاب عن ثقافة البدو وكيف أن البادية هي الموطن الأصلي للعرب وأنها الأرض الخصبة للتأمل والفلسفة ونشوء العقيدة، ويتفاعل ويتعاطف كذلك مع القضية الفلسطينية ويؤازرها بصدق حيث يرى أن الإعلام العالمي مضلل فيما يتعلق بها، كما يزكّي الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، ويمنحه لقب «الأديب الشهيد». وفي الأسطر القادمة، أعرض أبرز ما جاء في الكتاب من قول صريح، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
بينما ينتقد المستعرب عدداً من الأوضاع السلبية التي تعاني منها المجتمعات العربية، كالحاكم المعمّر، هدر حقوق الإنسان، السجناء السياسيين، غياب الشعور بالمسئولية، عدم توظيف الدين الإسلامي بشكل صحيح.......، فإنه -وفي منأى عن العاطفة التي تتملّكه نحو أصدقائه العرب- يعزز قيمة الموضوعية التي حرص عليها في كتابه ويعرض لهم «تجربة صعبة ومريرة» واجهها كياباني مع قومه أجمعين! فعندما سيطر العسكر على مقاليد البلاد وزجّوا بها في حروب طاحنة، آلت إلى دمار شامل عقب الحرب العالمية الثانية، ما دفع بالشعب الياباني لاحقاً أن يعترف بالخطأ ويستفيد من الدرس، فأبعد العسكر عن السلطة، وبنى ما دمّره القمع السياسي، واستغرق الإصلاح أكثر من عشرين عاماً. فمن الدروس التي لا ينساها الشعب الياباني «أن القمع يؤدي إلى تدمير الثروة الوطنية وقتل الأبرياء، ويؤدي إلى انحراف السلطة عن الطريق الصحيح والدخول في الممارسات الخاطئة باستمرار».
وفي خضم الحديث عن الجيل العربي، يتحدث المستعرب عن التعليم الذي يجده ذا شجن، حيث ينتهي المطاف بالفتيان والفتيات النوابغ في البادية إلى حال الأفراد العاديين تحت غياب الاهتمام والرعاية الاجتماعية. فيتحدث عن ابن صديقه السوري، جاسم الهادئ الصامت، الذي «يشع من عينيه ذكاء خاص وشرود يشبه شرود المتأمل. كان دائماً يراقبني بهدوء ويتحدث معي بالطريقة نفسها. كل شيء في ذلك الطفل كان يوحي بأنه سيصبح كاتباً أو شاعراً لو كان طفلاً في اليابان. بعد عشر سنوات رمى جاسم موهبته كلها وأصبح راعياً نموذجياً كما يتوقع منه المجتمع».
وفي فطنة يابانية، يستغل المستعرب ثقافة (الحلال والحرام) ليواجه بها احتيال بعض العمّال أثناء إقامته الطويلة في مصر مقابل إصلاحات منزلية، فيتوعد الواحد منهم قائلاً: «ألا تخاف الله؟ أنا سأطالبك بالنقود الزائدة التي أخذتها مني يوم القيامة». ليخلص أن «الجميع كانوا يخافون فعلاً ويأخذون أجرهم في حدود ما كانوا يسمونه الحلال».
ومن حافة بعيدة، كان البيت المتهالك على أطراف مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق يقطنه رجل خمسيني، وقد برّر تهالكه للمستعرب قائلاً: «هذا بيت مؤقت. بيتي الحقيقي هناك في فلسطين. نحن نسكن هنا بصورة مؤقتة وسنعود إلى ديارنا عاجلاً أم آجلاً، وإذا وضعنا سقفاً بشكل كامل فهذا يعني أننا نتنازل عن العودة». استأذن العجوز ثم عاد يحمل معه مفتاح بيته في فلسطين وقد اعتبره شيئاً نفيساً، واستطرد قائلاً: «كلنا نحتفظ بمفاتيح بيوتنا.. نحن هنا بصورة مؤقتة».
وأختم بجملة من التساؤلات «البسيطة والصعبة» التي انعكست مع صورة العرب في مرآة المستعرب اليابانية: «لماذا لا يستفيد العرب من تجاربهم؟ لماذا لا ينتقد العرب أخطاءهم؟ لماذا يكرر العرب الأخطاء نفسها؟ وكم يحتاج العرب من الوقت لكي يستفيدوا من تجاربهم ويصححوا أخطاءهم ويضعوا أنفسهم على الطريق السليم؟».. وشهد شاهد من غير أهلها!
("الشرق") القطرية