توقفت الحرب بين كل من أمريكا وإسرائيل ضد إيران، لكنها لم تنته بعد، الأمر المؤكد، وكما ورد على لسان وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس الذي أعلن (الخميس الماضي) أن "إسرائيل ستضرب إيران مجدداً وبقوة إذا تعرضت لتهديد منها"، الموقف نفسه يتكرر لدى الجانب الإيراني، فالبرلمان الإيراني اتخذ قراراً بتعليق العلاقة مع "الوكالة الدولية للطاقة الذرية"، في إشارة إلى إمكان الانسحاب الكامل من معاهدة حظر انتشار الأسلحة الذرية ومن ثم إطلاق آفاق البرنامج النووي إلى منتهاه، دون اكتراث بأي تهديدات، حذر رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان من أي استئناف للمفاوضات مع الولايات المتحدة، أو التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
تجدد الحرب، أو استئنافها يمكن أن يكون إجابة للسؤال المهم الذى يشغل الكثيرين الآن، وهو سؤال: وماذا بعد أن توقفت الحرب؟ إلى أين تتجه المنطقة؟ لكن الواضح أن هناك "كوابح" ستفرض نفسها حتماً وستحكم أى مواجهة في المستقبل منها الشرط الذي وضعه يسرائيل كاتس وزير الحرب الإسرائيلي المشار إليه بخصوص أن إسرائيل لن تضرب إيران مجدداً إلا إذا تعرضت إلى عدوان إيراني، وهذا تطور جديد شديد الأهمية بخصوص وجود إدراك إسرائيلي جديد، ولدته الحرب الأخيرة وعنف الضربات الإيرانية، مفاده أن "إسرائيل لن تبادر بحرب ضد إيران".
لكن التطور الأهم يتعلق بإدراكات القوى الإقليمية الدولية لتوازن القوى الإقليمي الجديد الذي ولدته الحرب الأخيرة التي فجرها العدوان الأمريكي - الإسرائيلي على إيران، ولما يمكن أن تولده أيضاً من مشروعات لإعادة هندسة النظام الإقليمي على ضوء الديناميكيات الجديدة التي بدأت تفرض نفسها على المنطقة بعد تلك الحرب. لدينا مدخل مهم للتفكير في إجابات عن فحوى هذه "الديناميكيات" الجديدة يتمثل في الأفكار المهمة في الدراسة التي نشرتها مجلة "فورين أفيرز" (الشؤون الخارجية) التي تصدر عن المجلس الأمريكي للسياسة الخارجية شديد الاقتراب بدوائر صنع القرار في الولايات المتحدة (عدد يوليو/ أغسطس 2025).
كتبها كل من الدكتورة "أونا هاثاواي"، أستاذة القانون في كلية الحقوق بجامعة ييل، وهي باحثة غير مقيمة في "مؤسسة كارنيجي" للسلام الدولي الأمريكية، والرئيس المنتخب للجمعية الأمريكية للقانون الدولي. بالمشاركة مع زميلها الدكتور "سكوت شابيرو" أستاذ القانون وأستاذ الفلسفة في جامعة ييل، وهما مؤلفا كتاب "الأمميون: كيف أعادت خطة جذرية لحظر الحرب تشكيل العالم". هذه الدراسة جاءت تحت عنوان: "النظام العالمي الأمريكي الجديد: عودة الروح للحرب ولمبدأ (القوة تصنع الحق")، وتمحورت حول خلاصتين:
الأولى: أن الولايات المتحدة (وليس فقط إدارة ترامب) باشرت عملياً تدمير النظام العالمي الذي أقامته بعد الحرب العالمية الثانية، والذي استند (ولو اسمياً) إلى القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة وما تضمنه هذا الميثاق من أهداف ومبادئ سامية، ترفض الحرب كوسيلة لحل النزاعات، وتعلي من حق الدول في الدفاع عن نفسها وسيادتها ومواردها، وتمتعها بحق تقرير المصير واستقلالية قرارها الوطني. فالولايات المتحدة تنتكس الآن بهذه الالتزامات وتعود مجدداً إلى "نظام ما قبل الحرب العالمية الأولى" المستند إلى تشريع مبدأ الحرب، والاستيلاء على الأرض والدول بالقوة.
إضافة إلى إحياء المبدأ الشهير الذي نبذه العالم بثوراته التحررية التي أعقبت تأسيس الأمم المتحدة كرمز لنظام القانون وعدالته وسيادة الدول، وهو مبدأ "القوة تصنع الحق". الثانية: أن هذا التحول الأمريكي سيدفع الدول الكبرى إلى تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ لها، واحتلال ما تشاء من الدول في مناطق نفوذها (أمريكا تبتلع كندا والمكسيك وجرينلاند وربما كل القارة الأمريكية) مع طموحات التمدد الجغرافي في الشرق الأوسط (على غرار ريفييرا الشرق الأوسط الأمريكية المأمولة في قطاع غزة)، وروسيا تبتلع أوكرانيا وما يتيسر لها من دول البلطيق وشرق أوروبا، والصين تبتلع تايوان وما يتيسر لها في شرق آسيا/ الباسيفيك.
الخلاصة التي توصلت إليها تلك الدراسة هي دعوة الدول الـ141 التى صوتت دعماً لموقف الولايات المتحدة في قرار صدر عن الجمعية العامة يدين محاولة روسيا ضم الأراضي الأوكرانية، للتوحد هذه المرة ضد الولايات المتحدة والقوى العالمية الكبرى وتأسيس تحالف عالمي يكون هدفه التصدي للولايات المتحدة ومنعها من إعادة فرض "الحرب" كقانون أساسي (وقانوني) لنظام عالمي جديد تريد أن تفرضه. هذه "التوصية" أو "الخلاصة" المهمة تجد ما يدعمها في الشرق الأوسط ضمن النتائج والديناميكيات التي ولدتها الحرب الأخيرة على إيران ومن أبرزها:
- لم يعد ممكنا الفصل بين ما هو مشروع أمريكي وما هو مشروع إسرائيلي في الشرق الأوسط، وأن التوجه الأمريكي – الإسرائيلي للسيطرة الكاملة على الشرق الأوسط وفرض هندسة جديدة لنظامه الإقليمي تخدم المصالح العليا الأمريكية والإسرائيلية لن يتراجع بل هو في مرحلة صعود، يؤكد هذا "هوس" كل من الرئيس الأمريكي ترامب ونيتانياهو رئيس حكومة كيان الاحتلال بقانون "القوة تصنع الحق على حساب القانون الدولي وحقوق وحريات الشعوب في العدالة والسلام".
- أن إسرائيل، رغم الدرس القاسي الذي ولدته الحرب على إيران، وفشل إسرائيل في الاعتماد على قوتها الذاتية لهزيمة إيران سيزيد من اندفاع إسرائيل لفرض مشروعها المرتكز على قاعدة "منع وجود جيوش قوية في الدول المحيطة بها: خاصة إيران وتركيا ومصر، على الترتيب اعتماداً على تحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة .
- أن إيران ومصر وتركيا ستجد نفسها مدفوعة حتماً للتفكير في كيفية التصدي لهذا المشروع الإسرائيلي الأمريكي، في وقت أضحى فيه التوفيق مستحيلاً بين أن تقبل الانسحاق أو أن تسعى للتصدي لهذا الخيار المستحيل، وهنا يكون السؤال كيف؟.. وهل آن الأوان أمام هذه الدول الكبرى الثلاث ومعها دول عربية أخرى لمعالجة الخلل في توازن القوى في الإقليم الذي أضحى معرضاً للاختلال الشديد في ظل دخول الولايات المتحدة كطرف مدفوع للهيمنة والسيطرة متحالفاً مع إسرائيل؟ هذا هو السؤال الذي تستوجب الإجابة عنه الوعي بخصائص التحولات الديناميكية الإقليمية الجديدة، وإجابته هي التي ستحدد معالم المستقبل الإقليمي.
(الأهرام المصرية)