وجهات نظر

ألم يحن الوقت لبلورة رؤية نقدية عربية لخيار الليبرالية الجديدة؟

في عدد دورية "نيويوركر" الأمريكية الصادر في 24 يوليو الماضي دراسة غاية في الأهمية حول الليبرالية الجديدة عنوانها "صعود وسقوط النيوليبرالية"، تصدّرت الدراسة العبارة التالية: "رُوج لاقتصاد السوق بوصفه العلاج الناجع لكل مشاكلنا؛ لكن ثبت أنه بات السبب فيها".

ألم يحن الوقت لبلورة رؤية نقدية عربية لخيار الليبرالية الجديدة؟

انتقدت الدراسة بحدّة شديدة ما أطلقت عليه "عقيدة السوق الحر" التي اعتنقها العالم الرأسمالي منذ سنة 1979، أي قبل 45 سنة، بقيادة بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. فلقد أصبغ هذا الخيار الاقتصادي التاريخي قداسة على السوق وحَجًمَ دور الدولة. كما مثّل تراجعًا عن قيم الاقتصاد الرأسمالي الكينزية التي راعت – نسبيًا - مصالح المواطنين من دون تمييز: الأثرياء والفقراء، فحظيت هذه السياسة على تأييد العمال والمنظمات المدنية وملايين من المزارعين وموظفي الحكومة وجميع الجماعات العنصرية والاجتماعية لهذه السياسة من خلال ما عُرف بسياسة الصفقة الجديدة The New Deal؛ كما راعت - نسبيًا - تحقيق المساواة والرفاه وتوفير الأنظمة الخدمية والتأمينية لجميع المواطنين على اختلافهم.

سياسات "النيوليبرالية" أخفقت إخفاقًا تاريخيًا في تحقيق وعودها

ولكن نُحيت السياسات الكينزية لصالح أفكار "ميلتون فريدمان" (1912 ــ 2006)، وفريدريك هايك "(1899 ــ 1992) المُؤسسة لسياسات الليبرالية الجديدة. وهي السياسات التي أسفرت عن تفاقم البطالة، وتعمّق الفقر، ولامساواة هي الأسوأ في التاريخ الإنساني بين القلة الثروية والأغلبية من المواطنين، نظرًا لأنّ النيوليبرالية تقوم على الأخذ بـ"النسق السلعي"، ومن ثم استحال تقديم أنظمة الرعاية التأمينية والصحية والخدمية دون مقابل مالي، ومن ثم خضعت هذه الأنظمة إلى آليات السوق وتم اعتبارها "سلعًا" تُقدّم نظير أجر لمن يريد الحصول - أو القادر على الحصول عليها عمليًا - شأنها شأن المنتجات الصناعية والأجهزة والبضائع.. إلخ.

وبعد مرور ما يقرب من نصف قرن على الأخذ بسياسات النيوليبرالية يجمع كثيرون بأنها قد أخفقت إخفاقًا تاريخيًا في تحقيق وعودها والتي كان من أبرزها سياسة "تأثير التساقط" trickling down effect؛ وكانت تعني أنّ "غنى الأغنياء سيصفي تلقائيًا وتدريجيًا ظاهرة الفقر" لأنّ الغنى المتزايد يعني تزايد الاستثمار وخلق فرص عمل باستمرار. وعليه تنحصر البطالة من جهة، أما غير القادرين على العمل من المرضى والكسالى والمعوقين فيمكن تلبية احتياجاتهم بالأنشطة الخيرية Charity؛ لأنه لا حاجة إلى سياسات اجتماعية تمثل عبئًا على ميزانية الدولة. إلا أنّ توالي الأزمات الاقتصادية/المالية العالمية والتي بلغت ما يقرب من 150 أزمة متفاوتة الحدة/الشدة (بدايةً من الأزمة المصرفية السويدية 1990، ومرورًا بالأزمة اليابانية من 1995 إلى 2000، والأزمة الآسيوية الشهيرة 1997 - 1998، إلى أزمة 2008 الأسوأ في تاريخ البشرية التي لم تزل تداعياتها وتوابعها متفاقمة بفعل الجائحة الفيروسية من جهة والصراع الإمبريالي الراهن بين الغرب الأطلسي القديم والشرق الأوراسي الجديد) قد أثبتت فشلًا ضخمًا.

مواجهة الجائحة الفيروسية عكست مدى هشاشة الاقتصادات المسيّرة بالليبرالية الجديدة

وسؤالنا المشروع والمنطقي، ألم يحن وقت بلورة رؤية نقدية عربية للنيوليبرالية طالما كان "حصادها بائسًا"، ما دفع كثير من المتابعين إلى وصفها في كثير من الأدبيات بـ"الخرافة الكبيرة" A Big Myth؛ كذلك بـ"الكابوس" Nightmare؛ وهو ما تعكسه دراسة "نيويوركر" والعديد من الكتب والدراسات التي تدفقت في تشريح ما اقترفته تجاه مواطني الكوكب، على مدى ما يقرب من نصف قرن، وهو التشريح الذي يعكس مقاربة الليبرالية الجديدة من منظور المواطنة وذلك من حيث: أولًا: حجب الحقوق بأبعادها عن هؤلاء المواطنين؛ وثانيًا: تسليع تام للحياة الإنسانية؛ وثالثًا: إلحاق الأذى بالتنمية الشاملة المقدّمة للجميع بفعل النمو غير المتوازن الذي أدى إلى رفاهية القلّة على حساب الأغلبية من المواطنين؛ ورابعًا: تعظيم الاحتكارية في النظام الاقتصادي العالمي والاقتصادات القومية؛ وخامسًا: "إلغاء الضوابط" حسب العالم الكبير "سمير أمين" وإضعاف الصرامة النقابية لصالح استثمارات تدرّ أرباحًا "مستقاةً من الاستغلال" تعود للقلّة بسرعة دون أن تنشغل باستثمارات إنتاجية ذات عائد يلبي احتياجات شرائح أوسع من تلك القلّة أو ما أطلق عليه عالم الاجتماع الفرنسي "ألان تورين" (1929 - 2023) ثنائية "الربح في مواجهة الحقوق" Profit versus Rights؛ وسادسًا: الإفراط في الإعفاءات الضريبية للأغنياء؛ وسابعًا: تراجع الاهتمام بالسياسات الاجتماعية وبقوانين العمل التي تؤمّن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعاملين. ونتج عما سبق أن سارت - ولم تزل تسير - المجتمعات في اتجاه الانشطار وتنامي الاختلالات المجتمعية واتساع التفاوتات.

وفي هذا المقام، نشير كيف أنّ مواجهة الجائحة الفيروسية - حتى في الدول المتقدمة - قد عكست مدى هشاشة وعدم استعداد الاقتصادات المسيرة بالليبرالية الجديدة لتوفير التحصينات والعلاجات المطلوبة للجميع ما مثّل سقوطًا أخلاقيًا واجتماعيًا تاريخيًا أكدته ممارسات التضحية بالكهول والتنافسات بين الشركات حول احتكار سوق الأمصال بما يضمن "البقاء للأغنى" إذا ما استعرنا عنوان التقرير السنوي لمؤسسة أوكسفام لسنة 2023.

وبعد، أظنّ أنّ منطقتنا في حاجة إلى فتح حوار واسع حول الليبرالية الجديدة خاصة وأنّ هناك الكثير من المراجعات المعتبرة على المستويات السياسية والأكاديمية والفكرية لخيار "النيوليبرالية" في البلدان صاحبة الاختراع - أو بلدان المنشأ إذا جاز التعبير - وكيفية تجاوز الإخفاق التاريخي لهذا الخيار. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن