لكن الأستاذ بهاء الدين كان قد أصدر كتابًا آخر لم يحصل على الصيت الذي حصل عليه "أيام لها تاريخ" وكان عنوانه "شرعية السلطة في العالم العربي". ونستطيع بالطبع أن نخمن الأسباب التي من أجلها لم يحصل هذا الكتاب على ما يستحقه من اهتمام رغم أهمية موضوعه الذي يناقشه، فالحكومات في الغالبية من عواصم العرب لا ترحب بطرح موضوع كهذا للنقاش العام، وإذا رحبت ففي أضيق نطاق ممكن، رغم أنّ الكتاب يتعرض لموضوعه في منتهى الهدوء والموضوعية.
الفكرة الأساسية في الكتاب أنّ السلطة في أي مكان، وليس في العالم العربي وحده، تكتسب شرعيتها من صندوق الإقتراع في الأصل.. وهذا صحيح بالتأكيد.. فالصندوق هو الأرضية التي يقف عليها كل صاحب سلطة وصل إليها من خلال أصوات الناخبين، ولا بد أنّ هذا الصخب الذي نتابعه في بلاد العم سام يعود إلى السباق على الصندوق، الذي يظل طريقًا إلى البيت الأبيض في كل سباق.
الوجه الأول من شرعية السلطة أصوات الناخبين والوجه الثاني متعلق بالكيفية التي تؤدي بها واجبها تجاه رعاياها
صحيح أنّ العملية الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية معقدة بعض الشيء، لاعتمادها أولًا على ما يسمى بأصوات المجمع الإنتخابي، وبالتوازي ثانيًا على أصوات الناخبين في صناديق الإقتراع.. صحيح هذا في تفاصيله وفي مجمله.. ولكن الأساس في موضوع المجمع الإنتخابي هو مجمل عدد أصوات الناخبين في كل ولاية، أو حجم الولاية وعدد ناخبيها وسكانها، أو شيء من هذا القبيل.
والمعنى أنّ مرجع الشرعية هو إلى الصندوق، ومن وراء الصندوق إلى الناخب، فإذا ما حظي المرشح بثقة الناخب فقد حظي بالشرعية في المقابل.
إننا إلى الآن نفهم أنّ غلبة المرشح دونالد ترمب على المرشحة هيلاري كلينتون في سباق ٢٠١٦، كان لأنه حصل على أصوات المجمع الإنتخابي بأكثر مما حصلت هي، والغريب أنها حصلت على أصوات الناخبين بأكثر مما حصل هو.
ولكن هذا كله لا ينفي أن الناخب هو البطل في الحالتين، لأن أصوات المجمع الإنتخابي تعود في أساسها إلى الكتلة الإنتخابية.
هذا على بعضه لم ينكره بهاء الدين في كتابه، ولكنه ذهب إلى الإشارة إلى وجه آخر من شرعية السلطة، وقال إنّ هذا الوجه لا بد أن يكون محل اهتمام من كل سلطة اكتسبت وجه شرعيتها الآخر من خلال الصناديق.. أما الوجه الثاني الذي افتتح به كتابه، وجعل منه خيطًا ممتدًا بين كل فصول الكتاب، فهو الوجه الخاص برضا الناس عن السلطة.
ويمكن القول بالتالي إنّ الوجه الأول من شرعية السلطة أساسه أصوات الناخبين، ولكن الوجه الثاني متعلق بالكيفية التي تؤدي بها السلطة واجبها تجاه رعاياها وهي تجلس في مقاعد الحكم، ولا يمكن إغفال هذا الوجه الثاني لأنه ربما يكون أهم من الوجه الأول.
لا مجال للحديث عن خداع قد ينطلي على الناخب في مرحلة الاقتراع ولا ينطلي عليه في مرحلة الأداء العملي
هو أهم لأن عملية الإقتراع يمكن التأثير خلالها على إرادة الناخب، ويمكن توجيه هذه الإرادة من مرشح لمرشح، دون أن يكون المرشح الذي يراد التصويت له هو الأفضل بالضرورة.
أما شرعية الأداء إذا جاز لنا أن نسميها هكذا عند الإشارة إلى الوجه الثاني، فلا يمكن خداع الناخب بشأنها، لأن مذاق ما تؤديه السلطة في مقاعد الحكم يصل إلى الناخبين والمواطنين دون واسطة، ولا مجال للحديث هنا عن خداع قد ينطلي على الناخب في مرحلة الاقتراع، ولكنه لا ينطلي عليه هنا في مرحلة الأداء العملي في حياة الناس.
لا شك في أنّ كل صاحب سلطة سياسية في عواصم العرب مدعو إلى أن يرى هذا الكتاب، لأنه سيجد فيه ما يصله بالناس بجد، وبغير أن تكون هذه الصلة عُرضة لأي تأثير خارجي، لأنها بطبيعتها تقف على ما يجعلها مُحصنة ضد كل عوامل التأثير.
(خاص "عروبة 22")