وجهات نظر

الجالية العربية في السويد وإكراهات التحولات الاقتصادية

بعيدًا عن حرق المصاحف في السويد الذي يبقى محلّ جدل قانوني وسياسي بين دعاة الحق في حرية التعبير ودعاة الحفاظ على النظام العام، نروم في هذا المقال التركيز على جدل آخر حول المهاجرين وحول النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي يستفيدون منه والذي يبقى في نهاية المطاف، رهينة جدل ومناقشة كذلك بين اليسار واليمين هناك حيث أنّ اليمين يتخذ من أعمال العنف ضد حرق المصحف وارتفاع الجريمة والمخدرات وسوء رعاية الأطفال فرصة للدعوة إلى مراجعة نظام رعاية الفقراء المهاجرين.

الجالية العربية في السويد وإكراهات التحولات الاقتصادية

يعتقد الكثير في العالم العربي أنّ السويد هو مثال جيّد لرعاية سخيّة للمهاجرين بفضل نظام اشتراكي ناجح نجحت فيه السويد حيث فشلت فيه بلدان المعسكر الشرقي وبلدان عربية، ونسعى هنا إلى البرهنة على أنّ اشتراكية السويد لا تعدو أن تكون خرافة وأنّ المهاجرين واللاجئين هناك يستفيدون من خيرات نظام رأسمالي للمفارقة. فالسويد بلد نشأ نشأةً رأسمالية مند القرن 19 ووصل سنة 1950 إلى أن يكون من بين أغنى أربع دول في العالم بفضل النظام الرأسمالي لا غير. وكلّ أدلة المقال مصدرها دراسة جديدة صدرت في 2023 عن معهد فرايزر الكندي حرّرها جوهن نوربرغ عن هذا الموضوع بالذات.

شهدت السويد بين 1840 و1870 ثورة ليبرالية كبيرة تميّزت بتحرير السوق وخفض حجم الحكومة وخفض الضرائب وفي 1950 كانت السويد إحدى أربع أغنى دول في العالم امتازت بحرية اقتصادية عالية وانخفاض لحجم الإنفاق الحكومي إلى 20 بالمئة من الناتج المحلي وهو مؤشر قوي على دور محدود للحكومة في الاقتصاد مقارنة ببلدان غرب أوروبا ومستوى الضرائب أدنى من الولايات المتحدة.

لكن بين 1970 و1980 شهدت مملكة السويد نكسةً لليبرالية تميّزت بتنامي سياسات الإنفاق الحكومي المتوسّع والضرائب العالية والضبط القانوني المتشدد للأسواق وفي هذه المرحلة تباطأ الاقتصاد وبدأت السويد تتخلّف عن ركب البلدان الصناعية الغربية، حيث تمّ إضعاف الحوافز للعمل وريادة الأعمال وتم التوسع في سياسات الرفاه الاجتماعي، وتوقف القطاع الخاص عن توفير الوظائف، والأجور الحقيقية توقفت عن النمو وبدأت كبرى الشركات تخرج من البلد مثل "IKEA" و"Tetra Pak". وبدأت الحكومة تسجّل عجزًا متزايدًا في الميزانية كل عام وبدأت موجة من التضخم وخفض العملة والدين الحكومي في التنامي بشكل متزايد. وانتهى كل هذا بأزمة مالية عميقة في بداية سنوات 1990 ظهرت من خلال ارتفاع نسبة فائدة المركزي إلى 500 بالمئة.

المقاربة التوزيعية لموارد الرعاية في السويد تعتمد على دورة الحياة وليس على المجموعات

قرّر الساسة السويديون حينها وبإجماع، العودة إلى النظام الرأسمالي السابق بتحرير الاقتصاد من القيود البيروقراطية التي كبلته، وخفض مستوى الضرائب وتحجيم وزن الحكومة في الاقتصاد، حيث أدخلوا جملة من القواعد الضريبية ساهمت في خفض مستوى الدين الحكومي وجرى مراجعة نظام المعاشات وخصخصة العديد من الشركات المملوكة للحكومة، كما ألغت السويد الضريبة على الثراء والهدايا والمواريث.

ومن جهة السياسات الاجتماعية بدأت السويد بصفة رائدة في إدخال القطاع الخاص إلى قطاع الرعاية الاجتماعية حيث تمكّن رجال الأعمال الخواص من تقديم خدمات رعاية منافسة للخدمات التي يقدمها القطاع الحكومي وأعطي المواطنون الذين يحتاجون إلى الرعاية حرّية الاختيار بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص في الاستفادة من خدمات الرعاية للمسنين والرعاية الصحية ورعاية الأطفال قبل المدرسة واختيار المدارس لأبنائهم بين مدرسة حكومية أو المدرسة الخاصة، حيث تدفع الحكومة للأسرة وهي تختار أفضل المدارس، الأمر الذي حسّن من جودة الرعاية والخدمات المقدّمة للمواطن السويدي. والآن أصبح خمس مؤسسات الرعاية والتربية المدعومة بالضرائب يديرها قطاع خاص.

ما زالت السويد تمتاز بمستوى من الإنفاق الحكومي الاجتماعي متوسط، مقارنةً ببلدان أوروبا الغربية مع اقتصاد مفتوح وما زال قطاع الرعاية كبيرًا مقارنةً بالولايات المتحدة والبلدان الأنكلوسكسونية، ولكنّ المقاربة التوزيعية لموارد الرعاية تعتمد على دورة الحياة وليس على المجموعات. لا تعتمد السويد لدعم البرامج الاجتماعية على الدخول الأعلى ولكن على الدخول المتوسطة والدنيا، كذلك وعلى ضرائب المبيعات، ولهذا السبب يُعتبر نظامها الضريبي الأقل تطورًا في بلدان منظمة التعاون والتنمية.

المهاجرون يستفيدون من ضرائب كلّ المواطنين مما يجعل أي خطاب يميني لديه فرص في الاتساع

رغم حجم الحكومة الذي ما زال كبيرًا، إلا أنّ السويد فيها حرية اقتصادية أفضل من الولايات المتحدة، وبفضل الإصلاحات الاقتصادية التي باشرتها مملكة السويد منذ بداية التسعينات وبداية سنة 2000، فإنّ السويد اليوم تُعتبر من البلدان الصناعية الغنيّة وتشهد نموًا متزايدًا للشركات وخلقًا للوظائف وارتفاعًا للأجور الحقيقة وليس الإسمية من خلال التضخّم كما تفعل الحكومات الاشتراكية.

المهاجرون هناك الذين يستفيدون من مزايا رعاية اجتماعية سخيّة، يستفيدون من ضرائب كل المواطنين الذين يعملون، من كل طبقات الأجور من الأغنياء إلى ذوي الدخل الضعيف، مما يجعل أيّ خطاب يميني يربط بين العنف والجريمة والتطرّف والمهاجرين تكون لديه فرص في الاتساع ويكون لمرشحيه فرصة الفوز في الانتخابات، التي ستؤدي إلى سياسات تراجع السخاء الحكومي في الوصول إلى المنافع الاجتماعية وتضع قيودًا انتقائية على أساس خلق الحوافز نحو العمل وريادة الأعمال، كما سيتم التوجه كذلك إلى مراقبة أكثر لدعم المدارس الخاصة التي تموّلها الحكومة من دافعي الضرائب حتى لا تتحوّل إلى مصدر لتمويل التطرف العنيف. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن