وجهات نظر

"المسافة صفر"

مرت أكثر من سنة كاملة على آخر حروب الكيان العنصري الصهيوني على الشعب الفلسطيني، والتي باتت تصنف على أنها واحدة من أبشع وأحط الحروب على مدى التاريخ الإنساني كله، كما أنها، وعن جدارة، الأسوأ والأشد وحشية وجنونًا بين كل حروب العصور الحديثة.

هذه الحرب الفريدة في فظاعتها وجنونها تعيد التأكيد مجددًا على حفنة ثمينة من الحقائق التي يجب وضعها تحت النظر عند التعامل مع كيان مُختلق ومُصنّع إمبرياليًا لكي يؤدي دورًا وظيفيًا شديد الخطورة ليس فقط على فلسطين والأمّة العربية، وإنما كذلك على الإنسانية جمعاء من حيث معاداته ومجافاة سلوكه لأهم القيم والمنجزات الأخلاقية للمسيرة الطويلة التي قطعتها البشرية صوب الارتقاء والتحضر.

إنّ الكيان الصهيوني بات يجمع بين جنباته جماعة بشرية، هي فضلًا عن كونها خليطًا مستجلبًا من شتى الأصقاع، فإنّ القيح والفساد ضارب ومستشرٍ فيها لدرجة تجاوزت نخبتها إلى كتل كبيرة جدًا من مجتمعها، حتى أضحت تجسيدًا مثيرًا ونادر المثال لمعنى مصطلح "دستوبيا" المعروف في مجال الأدب، إذ يشير إلى حال تفسخ وتعفن مجتمع إنساني ما واستمرار نأيه وبعده عن أية حدود أو روادع من الأخلاق أو القيم التي تواضع عليها البشر، بل يبدو واضحًا الآن أنّ فساد هذه الجماعة تفاقم بشدة حتى فقدت كل اتصال بحقائق يستحيل تجاهلها تتعلق بمؤهلات وشروط استمرار الوجود في المجتمع الإنساني، بعدما اختزلت كل مؤهلات وجود كيانها مجتمع الدول في مجرد امتلاك أحدث وأقوى آلات القتل والدمار الأمريكية الصنع.

الغزوة الصهيونية لأمّتنا انطلاقًا من فلسطين ليست مجرد غزوة احتلال كالتي عرفتها شعوب كثيرة على كوكبنا

تعبير "المسافة صفر" الذي يزيّن عنوان هذه السطور، وقد أصبح مشهورًا جدًا بعدما انطلقت حرب العدو الحالية على الشعب الفلسطيني، هو تعبير يشير إلى منهج عمدة تتبعه المقاومة في مواجهة قوى الغزو والعدوان التي تملك إمكانات تسليح هائلة لا يمكن مقارنتها بالقدرات المتاحة للمقاومة، فـ"المسافة صفر" في الواقع تجسد بطولة المقاومين وبسالتهم من جانب وتُحيد إلى حد كبير التفوق التسليحي الهائل لقوات العدو، إذ تلعب الأرض هنا في صف المقاوم صاحبها الأصلي ضد الغزاة وترسانتهم الفتاكة، وتجعل التحام المقاوم مع جنود الغزاة بمثابة حرمان لهؤلاء من الميزات التي توفرها أدوات القتل عن بُعد (مثل الطيران) وتجبرهم على مواجهة المقاوم وجهًا لوجه، ومن ثم تتوفر فرصة لأن يتكبد العدو الطعم الحقيقي للحرب والخسارة، ومن ثم يتذوق جنوده مُر القتال ومعناه أيضًا ذلك المتمثل في أنّ الحروب عمومًا ليست قصفًا وتخريبًا وقتلًا من بعيد فحسب.

غير أنّ تعبير "المسافة صفر" يكاد يختصر ببلاغة معنى وحقيقة الصراع مع الكيان الصهيوني، فهو لا يتوقف فقط عند المستوى العسكري في مقاومة هذا الكيان، بل يتعداه إلى طبيعة الغزوة الصهيونية لأمّتنا انطلاقًا من فلسطين، فهي ليست مجرد غزوة احتلال كالتي عرفتها شعوب كثيرة على كوكبنا، ولكنها شيء متفرد جدًا وأشد قسوة من أي احتلال آخر، إنها باختصار عملية سرقة كاملة ونادرة لوطن واقتلاع مجتمع برمته من أرضه.

هذه الأرض وذاك المجتمع يقعان في قلب أمّة العرب وفي أصل نسيجها الإنساني بما يلغي عمليًا أية مسافة فاصلة بين الأمّة وبين مصدر الخطر، فالمسافة هي في الواقع "صفر" بما يجعل الاحتكاك مع الكيان الصهيوني مباشرًا ومحسوسًا طوال الوقت، وعلى ذلك فإنّ المقارنة بين خطر هذا الكيان وبين كل الاحتلالات التي عرفتها غالبية أقطار بل وباقي شعوب العالم، هي مقارنة لا تجوز ولا تستقيم أبدًا.

الفرق الشاسع في المسافة بين الحالة الصهيونية والحالات الاستعمارية التي واجهناها من قبل له نتائج ثورية هائلة

وللتوضيح، فلقد كانت المسافة، مثلًا، بين لندن حيث مركز الاحتلال البريطاني، وبين القاهرة في مصر أو بغداد في العراق معدودة بآلاف الكيلومترات، كذلك كان الأمر مع الاحتلال الفرنسي لأقطار عربية أخرى فالمركز الاستعماري في باريس بعيد بمسافات كبيرة جدًا عن الجزائر والرباط وتونس.

هذا الفرق الشاسع في المسافة بين الحالة الصهيونية والحالات الاستعمارية التي واجهناها من قبل، له نتائج ثورية هائلة على طبيعة المجابهة والصراع وشكل وطبيعة المقاومة، فضلًا عن فداحة الخطر وقربه الشديد.

غير أنّ حقيقة "المسافة الصفرية" بين المشروع والكيان الصهيوني وبين الأمّة العربية عمومًا والشعب الفلسطيني خصوصًا، لا تتوقف مفاعيلها فقط على منهج إدارتنا للصراع معهما وضرورة استدامة مقاومتهما بكل السبل، وإنما تنتج أيضًا مفارقات مدهشة لعل أحدثها وأكثرها إثارة هو ما حدث قبل أيام عندما استهدفت المقاومة اللبنانية منزل المجرم بنيامين نتنياهو رئيس حكومة العدو ونجحت في إصابته إصابة مباشرة، بينما كان هذا المجرم يسوغ عمليته العسكرية الوحشية على لبنان بأنه يسعى إلى عودة آلاف المستوطنين الصهاينة إلى أماكن سكناهم في شمال فلسطين، فإذا به هو نفسه يُجبر على الهجرة من منزله الأنيق في مستوطنة قيساريا تحت ضغط ضربات المقاومة!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن