خاصّية الذكاء والترابط التي باتت تٌميّز هذه الأشياء، هي التي تمنحها القدرة على التقاط كل المعطيات التي تفرزها هذه البيئة الرقمية، وتعمل على إرسالها لشبكة الإنترنت، من خلال بنية تحتية مكونة من تقنيات وتطبيقات وخوارزميات ونماذج فيزيائية ورياضية وما سواها. ما يُصطلح على تسميته بإنترنت الأشياء، هو هذه الصيغة المرِنة لمسلسل ربط الأشياء المادية بالإنترنت، وكذا الشبكة التي تقوم على العملية إياها في الزمن والمكان.
إنترنت الأشياء يقوم إذن بوظيفة ربط كل العناصر المشكلة لمحيطنا اليومي، ثم استئصال المعطيات العابرة لهذا المحيط أو المقتنية لبنيته وبنيانه، ثم إرسالها للشبكة بصورة فورية، دون أدنى حاجة لتفاعل ما بين الإنسان والآلة، ألّلهم إلا في جانب تصميم برمجيات هذه الأخيرة، أو وضع التوجيهات لالتقاط المعطيات المخزنة بها أو المقتنية لأجهزتها وبرمجياتها.
غزت التكنولوجيا الرقمية تفاصيل حياتنا وأضحت خصوصيات الأفراد مجرد معلومات مفصّلة عن هويتنا الواقعية والرقمية
كل جهاز مرتبط بإنترنت الأشياء يحتوي، بناءً على ما سبق، على معطيات تخصّه. لكن خاصّية الارتباط تمنحه القدرة على التقاط معطيات أي جهاز آخر، ثم تقاسمها معه. هذه التفاعلات المرتكزة على ميزة الارتباط، هي التي من شأنها إفراز أحجام من المعطيات ضخمة، سرعان ما يتم تخزينها في نظم سحابية بغرض تحليلها واستغلالها وتوفيرها للاستعمال الفعلي المباشر.
لندلل على ذلك بمثال مبسط. عندما يقترب شخص ما من مكان إقامته، وهو بداخل سيارته "الذكية"، فإنّ هذه الأخيرة تبعث بمعلومات تواجده الجغرافي، لمنظومة مثبت حرارة الإقامة إيّاها. من خلال تحليل هذه المعطيات، تقوم المنظومة ذاتها، بتثبيت منسوب الحرارة الداخلية لكل غرفة من غرف المنزل حسب التوجيهات المحددة سلفًا. لا مكان هنا لأيّ تدخل بشري يُذكر، إذ بات بالإمكان الاستعاضة عنه بآليات في الذكاء الاصطناعي مزودة بنظام تعلّم آليٍّ "عميقٍ".
هذا المثال هو غيضٌ من فيضٍ، إذ باتت كل الأجهزة المحيطة بنا، وهي بالمليارات، قابلة للارتباط بإنترنت الأشياء، ومن ثمة إفراز أحجام ضخمة من المعطيات، بالإمكان تحليلها واستغلالها وتوظيفها لغايات شتى. فالمنازل والسيارات وأجهزة التلفاز ونظم التدفئة باتت ذكية، والهواتف المحمولة باتت مصممة لاحتساب دقات القلب وضغط الدم وقياس مضخة الأنسولين، وهكذا.
لقد غزت التكنولوجيا الرقمية أدق تفاصيل حياتنا، وأضحت خصوصيات الأفراد والجماعات بالتالي، مجرّد معطيات وبتات فيزيائية ومعلومات مفصّلة عن هويتنا الواقعية والرقمية على حد سواء. فالمعطيات المحصل عليها من سيارة مرتبطة بإنترنت الأشياء، تنبئ مثلًا عن أنماط سلوكنا كسائقين، فتحدّد المتهور منا من المتزن، الهادئ بالمقود من العصبي المضطرب.
بالتالي، فلا شيء يضمن حقًا ألا تحول معطياتنا كسائقين، إلى شركات التأمين مثلًا، فتحللها وتدقّق فيها وتستنبط منها اختياراتها بجهة من تمنحه بوليصة التأمين ممن تجد من معطياته ما يدعوها لرفض منحها إيّاه. المعطيات نفسها قد يتم تسليمها للمصحات الخاصة، فتبني عليها لترى في جدوى قبول هذا المريض أو رفض استقبال ذاك. لا بل إنّ من المصحات من تقوم، بتنسيق مع شركات التأمين الصحي، بإجبار المتعاقدين معها على ارتداء لاقطات تقيس درجات توترهم وأنماط استهلاكهم وساعات نومهم وهكذا.
ينحصر الأمر بالمحصلة النهائية، بين مُصمّمي الأجهزة وصانعيها، أي شركات إنترنت الأشياء، وبين مقدّمي الخدمات وعارضيها للمستهلك. هذا الأخير يبدو محاصرًا بين عرض تكنولوجي يحسب عليه أنفاسه وحركاته، بمنزله وبعمله وبالفضاء العام، وبين مطلبه الطبيعي في الحفاظ على مقومات حياته الخاصة من الاستغلال، أو من الاستهداف أو من المصادرة.
أحجام ضخمة ومتنوعة من المعطيات استغلالها من شأنه المس بالحياة الخاصة وفي المدى المتوسط الإجهاز عليها
لو تسنى لنا الآن، أن نعاين مصادر التهديد التي تترتب عن انتشار إنترنت الأشياء، على الحياة الخاصّة، لاستوقفتنا ثلاثة مستويات كبرى:
- مستوى الرصد، وهو نقطة التقاء الجهاز (ساعة أو منزل أو سيارة) مع العالم المادي. هذا المستوى هو المصدر الأول للمعطيات التي سرعان ما تلتقط وتخزن في أفق التحليل والاستغلال.
- مستوى الشبكة، ويتعلق الأمر بمليارات المعطيات الشخصية التي يفرزها الناس، أو يتركونها خلفهم عقب استعمالهم لوسائل النقل المختلفة، البرية والبحرية والجوية وما سواها.
- مستوى التطبيقات والخدمات، والتي يكون بمقدور المستعمل خلالها من التفاعل مع الأشياء المرتبطة.
إنّها كلها مستويات تحيل على أحجام من المعطيات، ضخمة ومتنوعة وغنية، لكن استغلالها من شأنه المس بالحياة الخاصة، وفي المدى المتوسط الإجهاز عليها تمامًا.
يبدو إعمال القانون بهذه الحالة ضروريًا. لكنه غير كاف. كل ما يستطيعه المرء هو واحد من أمرين: أقصى درجات الحيطة، أو فك الارتباط مع إنترنت الأشياء.
(خاص "عروبة 22")