أين روسيا ؟!..

كثير من فقهاء العلاقات الدولية يعتقدون أن مواقف أعضاء الاتحاد الأوروبي، تجاه قضايا الشرق الأوسط بالجوار الجنوبي، وجوداً وعدماً، اتفاقاً وإجماعاً أو تمايزاً واختلافاً، تشكل اختباراً حقيقياً لعافية ملف السياسة الخارجية الموحدة لهذه التجربة المتميزة.. إذا انطلقنا من هذه الفرضية، ونحن نعاين مواقف الأوروبيين لتفاعلات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الممتد، وجدنا أن هذا الملف ليس في أحسن أحواله.. ونحسب أن هذا التقييم السلبي ينطبق على المقاربات الأوروبية لكثير من المشكلات والأزمات الساخنة، داخل القارة العجوز وخارجها.

تعددية السياسات والمواقف والافتقار إلى الصوت الواحد، عند مخاطبة عوالم الآخرين والتعامل مع أزماتهم، ربما كانت كعب آخيل أو الخاصرة الرخوة في بنية الاتحاد الأوروبي.. لكن ما لا ينبغي إغفاله أن الحديث يدور هنا عن سياق يضم 27 عاصمة، لها مصالح خارجية معرضة على نحو أو آخر للتباين في لجة المحيط الدولي..

ثم إن هذه العواصم تسعى جاهدة لمعالجة هذه النقيصة، لاسيما في إطار المعمعة الإسرائيلية الفلسطينية، بالتركيز على مداخلات قوية المفعول، على صعيد الملفات الاجتماعية والاقتصادية والمالية، أو المدنية غير السياسية عامة.. ولنا أن نأخذ في الاعتبار كيف تمثل هذه التصرفات أبواباً جانبية للتأثير على التصورات السياسية لأطراف المعمعة، بدون إزعاج مباشر لمن يرفض منهم المبادرات الأوروبية ذات الطابع السياسي البحت.

لا يصعب علينا تفهم الأعذار، التي يبرر بها الأوروبيون هشاشة مكون السياسة الخارجية في مسيرتهم الاتحادية، وعدم تلاقيهم على قلب سياسة شرق أوسطية واحدة.. لكن ما يصعب تفهمه ويثير الحيرة والدهشة بالفعل، يتعلق بالسياسات والمواقف الروسية الموصولة بشؤون الشرق الأوسط وشجونه، التي باتت تراوح في الآونة الأخيرة بين الغموض والفتور وافتقاد روح المبادرة والميل للإحجام أكثر بكثير من المشاركة والإقدام.

ندفع بهذه الملاحظة، وفي الخاطر أن ما يصح لتبصر محددات الدور الأوروبي وآفاقه شرق أوسطياً ودولياً، يصح ويصلح وإن بشكل أعمق وأكثر صدقية، للتدبر في هذه المحددات والآفاق بالنسبة لروسيا، القطب الذي ينافس بحيثية أو أخرى لأجل القعود مجدداً على قمة النظام الدولي..

فإذا كان الطريق إلى سياسة خارجية أوروبية موحدة معتبرة دولياً، يمر جدلاً عبر الشرق الأوسط، فإن منافسة روسيا ومناكفتها للولايات المتحدة على هذه القمة، يمران يقيناً بهذه المنطقة. لا يعرف التاريخ قوة تمكنت من الاستئثار بالريادة أو الصدارة، أو نافست على ذلك، في المشهد العالمي، بدون أن يكون لها حضور مادي فعلي فورا أو كلمة مسموعة في "الشرق الأوسط".

هناك علاقة شبه عضوية بين حجوم السيطرة والتغلغل في هذه المنطقة، وبين صعود وأفول الإمبراطوريات أو القوى العظمى في العالمين القديم والحديث. مؤدى ذلك أن الأحاديث والتحليلات المحلقة في البيئة الدولية، التي تتشوف انتقال النظام الدولي قريباً نحو الثنائية أو التعددية القطبية، بفعل الدفع الروسي في هذا الاتجاه، لا تستقيم مع ما يجوز به وصف سياسة موسكو الشرق أوسطية خلال العام الأخير، كالحذر والانكماش والمراوحة في المكان والميل للاعتكاف، والاكتفاء غالباً بالمتابعة عن بعد من المقاعد الخلفية.

القصد أن مداخلات روسية هذه مواصفاتها الراهنة على خطوط القضايا أو الجبهات الساخنة في المنطقة، لا تتناسب مع قوة الحضور والفعل الأمريكي البارز على كل الصعد،عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً.. وهي بالطبع لا تقارن البتة مع المسار التاريخي للسياسة الروسية خلال العهد السوفيتي الآفل، ولا مع طموح القائلين بأن الدولة الروسية معنية باستعادة موقعها والمكانة التي كانت لها في ذاك العهد..

من المفارقات التي تطفو على سطح الذاكرة في هذا المقام، كيف بلغ انغماس موسكو السوفيتية في شؤون الشرق الأوسط، القضية الفلسطينية بخاصة، حد الندية رأساً برأس مع التغلغل الأمريكي، الغربي عموماً، أثناء حقبة الحرب الباردة.. بينما تكاد مواقفها من حرب غزة اليوم، تختلط بمواقف بعض الدول الصغيرة المنمنمة، التي تقع في سفح الهرم الدولي.

تفسير ذلك علمه عند صانع القرار الروسي..لكن اجتهاداً يحق التساؤل عما إن كان التحالف الغربي قد تمكن، وفق آليات للضغط والتأثير، كالعقوبات متعددة العناوين وحرب الاستنزاف الأوكرانية، من لجم أو تكبيل الحراك الروسي شرق أوسطياً و"زنقه" في زاوية ضيقة؟!

(البيان الإماراتية)

يتم التصفح الآن