وكأنها مجرد أحداث نابعة من جوهرانية انتماءات هويتيّة وقبلية سببًا لظواهر العنف، بالرغم من التطورات العميقة الحاصلة في مجتمعاتنا العربية، والتي هضمت العصبيات القديمة والمتغيّرات والتحّولات في بعض الأحيان في انتماء اجتماعي مناقض لما يجري من ظواهر عنف غير مفهومية في التحليلي للأحداث الجارية، أهانت سبل العيش الكريم والكرامة الٳنسانية.
المساواة والحرية الفردية التي تتضمن الاعتقاد والتملك والتنقل هو أرفع ما حملته الحداثة الأوروبية ٳلى العالم
في بعض الأحيان، يبدو أننا نحوّل بأيدينا أنظار العالم ٳلى المنطقة العربية على صورة قبائل متناحرة على أُسُس عرقية وجهويّة. وتكمن الخطورة في تعميم النظرة الاستشراقية وبشكل لا واعٍ، والتي تعتمد على النظرة الصهيونية الهادفة ٳلى تفتيت الأقطار العربية التي تتميّز بالتعددية ٳلى كيانات مبنيّة على هويات فرعية لا علاقة لها فعليًا بالأوضاع المعاصرة الموضوعية والمعقدة التي تتخبط فيها بديلًا عن الثورات الشعبية والدعوات التغييرية التي تحتاج إليها الشعوب العربية للخروج من ركودها العام ٳلى الفضاءات العلمية والتكنولوجية والحضارية والفكرية. مما يؤدي لمزيد من التوترات والصراعات في مجتمعات مغلقة يراد تعميمها على دول المنطقة، ومما يضفي شرعية لوجود الكيان الصهيوني الٳقصائي المبني حصرًا على الهوية الدينية.
ٳنّ المسائل والتفسيرات تتداخل بطبيعة الحال، فالخلل السياسي يؤدي إلى تطبيق متعثر للدساتير، كما أنّ التفسيرات التاريخية المتباينة تزيد من الانقسام بين الجماعات التي يفترض أن تخضع للقانون ولمفهوم موحد للوطن، بل يمكن للتعددية أن تكون ٳقليمية بين شمال البلاد وجنوبها في السودان وليبيا واليمن والعراق وسوريا، وتعددية طائفية تنتمي ٳلى الماضي في لبنان.
في المقابل، فٳنّ الفكر الٳنساني، يمكنه أن يقدّم فهمًا أعمق للمسائل التي تخصّ المجتمعات بما يتجاوز المصالح الفئوية والآنية. فالعقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، حيث كانت فكرة المساواة ٳضافة ٳلى الحرية الفردية التي تتضمن الاعتقاد والتملك والتنقل، وهو أرفع ما حملته الحداثة الأوروبية ٳلى العالم، وأعظم ما أنتجته الفلسفة الحديثة ( د. خالد زيادة في تقديم كتاب "تحديات العيش معًا في مجتمع تعددي"، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2024).
وبالرغم من خصوصيات مجتمعات الشرق الأوسط وتنوع أنظمتها السياسية، يمكن ملاحظة بعض الأمور المشتركة التي تسمح بتوضيح مفهوم التعددية في ضوء الواقع المعقد وأشكال التعايش الناتجة عنها على خلاف أوروبا وأميركا، ولا تطرح المسألة في ٳطار ديمقراطي ليبرالي، بل في ٳطار أنظمة عسكرية، أو ملكية تقليدية أو تسلطية تعتمد نظام الحزب الحاكم، أو ثيوقراطية، أو ديمقراطية ضعيفة. وبالتالي، فٳنّ التعامل مع التنوع أو عقلنته أيًا كان نوعه - ٳثنيًا أو دينيًا أو ثقافيًا – لا يقوم على محورية فرادة الفرد وحقوقه، بل على طبيعة النظام القائم ومصالح جماعات الأقليات وتعميمها في زمن الأزمات. فتبرز أشكال من التفكك الاجتماعي وزيادة اللامساواة والظلم والفقر والٳقصاء والتهميش، ما يؤدي حتمًا ٳلى الحرب (عفيف عثمان).
ينادي فتحي التريكي بما يسميه "جمالية العيش المشترك"، ويقدّم له تعريفًا يجعله في "قدرة الٳنسان على تغيير اجتماعيته الطبيعية وتحويلها ٳلى اجتماعية معقلنة وواعية". لا بد لنا من أن نفصل الاعتراض الثقافي عن الاعتراض السياسي، حتى تتبيّن لنا حقائق الاختلافات الأساسية التي تجعل المجتمعات غير الغربية ومنها الٳسلامية تحاذر تصورات الحضارة الغربية الحديثة المبنية على شرعة حقوق الٳنسان في معترك الاقتبال الثقافي المتنوع (د. مشير عون) .
لصالح من يحصل كل هذا التقاتل والتفنن في أساليب القضاء على الآخر؟
للأسف، المجتمعات العربية تعمد ٳلى التصارع على قيم شرعة كونية، ولذلك ستضطرب العلاقات أيما اضطراب، ويحيا الناس في تشنج المدارك وتصلب الهويات، والنتيجة حروب داخلية تقتل معيّة متسالمة متآلفة، ومصير قاتم للجميع.
العيش معًا في مجتمع تعددي بات نعمة ونقمة في آن. وتصير الأجوبة مثل الأسئلة ثقيلة (نايلة أبي نادر)، لصالح من يحصل كل هذا التقاتل والتفنن في أساليب القضاء على الآخر؟.
(خاص "عروبة 22")