النص عاليه، هو من كلام واضح وصريح لرئيس الوزراء الإسرائيلي في اجتماعه مع وفد من السفراء لدى الأمم المتحدة (صباح الأربعاء 31 يناير/كانون ثاني) الماضي، يكشف بشكل لا لبس فيه - وإن فاتنا أن نلحظ ذلك - النوايا والأسباب الحقيقية الكامنة وراء الإجراءات الإسرائيلية الدؤوب حيال المؤسسة الدولية.
رغم أنني أشرت قبل حوالى العام إلى الأسباب الكامنة تلك للموقف الإسرائيلي، والتي باتت معلنة مثلها مثل كل خططهم لمستقبل يضمنون فيه الهيمنة على المنطقة بأسرها، إلا أنني أحسب أنّ ما ذهبت إليه الحكومة العبرية قبل أيام من "تقنين" لموقفها، استهزاء بالقرارات الدولية ذات الصلة يستوجب العودة للموضوع، تذكيرًا بأبعاده (الحقيقية)، خاصة وأنّ ردود الفعل على الخطوة الإسرائيلية "المفصلية" تلك، بما فيها من ردود فعل عربية، ورغم ما صاحبها من غضب غفلت عن الإشارة إلى جوهر المشكلة، مكتفية بحديث مكرر ومهين عن الحاجة إلى تقديم "المساعدات الإنسانية" للفلسطينيين.
قيمة "الأونروا" الحقيقية في أنها "التجسيد القانوني" للقضية الفلسطينية بوصفها قضية أرض وشعب واحتلال استيطاني
بأغلبية ساحقة (92 صوتًا مقابل 10 أصوات)، صادق الكنيست الإسرائيلي الإثنين الماضي 28 تشرين الأول/أكتوبر على مشروع قانون يحظر نشاط وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" على الأراضي الإسرائيلية.
من يعرف تاريخ المسألة في الفكر الصهيوني، واطلع على الاستراتيجيات الإسرائيلية للتعامل مع "قضية اللاجئين"، المرتبطة عضويًا وقانونيًا بمسألة "النكبة" لن يستغرب قطعًا ما جرى قبل أيام في جلسة الكنيست الشتوية الأولى تلك من إجماع "نادر"، حسب وصف جريدة "جيروزاليم بوست"، ومن اتفاق ممثلي المعارضة بأجنحتها المختلفة مع الأغلبية في إقرار القانونين المخالفين بكل وضوح للقرارات الدولية ذات الصلة، وللالتزامات الإسرائيلية ذاتها بموجب هذه القرارات.
القراءة المتمعنة لقرارَي إنشاء الأونروا (212 في نوفمبر/تشرين الثاني 1948، و302 في ديسمبر/كانون الأول من عام 1949) تكشف بجلاء أنها ليست مجرد "منظمة إغاثية"، كما تحاول الدعاية الإسرائيلية أن توصفها، بل أنّ قيمتها الحقيقية، بحكم ما ورد في قرارَي إنشائها من تفاصيل إنما تكمن في أنها واقعيًا تمثل "التجسيد القانوني" للقضية الفلسطينية، بوصفها قضية أرض وشعب واحتلال استيطاني. فتعريف اللاجئ حسب أوراق تأسيس المنظمة الدولية: "هو الشخص الذي كان يقيم بصورة اعتيادية في أرض (فلسطين الانتدابية)، قبل نزاع عام 1948"، وحين نعلم أنّ هذا التعريف بموجب قرارَي الإنشاء يمتد ليشمل الأبناء والأحفاد من الأجيال التالية، ونتذكر أنّ البند الحادي عشر من القرار الأممي رقم 194 لعام 1948 ينص على "وجوب السماح بعودة اللاجئين إلى ديارهم في أقرب وقت ممكن the earliest practicable date" … ودفع تعويضات للذين يقررون عدم العودة، ندرك لماذا تحاول إسرائيل إنهاء وجود المنظمة التي "تبقي قضية اللاجئين الفلسطينيين حية"، كما قال نتنياهو بنفسه.
ما تحاوله إسرائيل منذ عقود للتخلص من "الأونروا" يطرح مسألة "توطين اللاجئين الفلسطينيين" في دول اللجوء
لن تتسع المساحة هنا لأعرض بالتفصيل كيف أنّ التخطيط الإسرائيلي لمحو قضية اللاجئين، بما يرتبط بها من "حق العودة"، وذلك بالتخلص من "الأونروا" هو تخطيط قديم، يمكنكم فقط العودة إلى الورقة التي أعدها عام 1994 شلومو جازيت، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الأسبق، تحوطًا لما قد يكون من مفاوضات حول الموضوع حسب مقررات أوسلو.
أيًا كان أمر الخطط الاستخباراتية، وتصريحات رئيس الحكومة العلنية، فما أقلقني حقًا ودفعني لإعادة الكتابة في الموضوع، هو أنّ جل ردود الفعل الرسمية الرافضة للقرارات الإسرائيلية الأخيرة (بما فيها العربية للأسف) انصبت، حصرًا على تبعات تلك الإجراءات من "الناحية الإنسانية"، متسائلة عن "البديل" الذي سيقدّم الخدمات الصحية والتعليمية للفلسطينيين، غافلة عن صلب القضية، إذ ليس لهذا تحديدًا وجدت "الأونروا"، فضلًا عن أنّ التخلص منها، وهذا ما تحاوله إسرائيل منذ عقود يطرح بالتبعية مسألة "توطين اللاجئين الفلسطينيين" في دول اللجوء، الذي كان من المفترض أنه مؤقت، مع كل تداعيات ذلك في تلك الدول (حسب الإحصاءات الرسمية هناك نصف مليون في لبنان، وأكثر منهم في سورية، فضلًا عن ما يزيد عن المليونين في الأردن).
على الذين يتحدثون عن "المساعدات الإنسانية" أن ينهوا حصارًا استمر سبعة عشر عامًا وأن يتحدثوا عن إنهاء "الاحتلال"
أخشى أننا نُستدرج، دون قصد بالتأكيد، إلى تبني السرديات الإسرائيلية (الصهيونية) أو على الأقل تركها تمر. إلى درجة أن تحتفي قنواتنا التلفزيونية بتصريحات هذا المسؤول الغربي أو ذاك (بلينكن يفعلها يوميًا) عن الحاجة إلى "تخفيف معاناة الغزاويين وتوصيل المساعدات الإنسانية". لا يا سادة، هؤلاء ليسوا مصابين في حادث طريق، أو ضحايا لزلزال أو كارثة طبيعية، هذا "شعب تحت الاحتلال" له كامل الحق ككل شعوب الأرض في "تقرير مصيره".
على الذين يُسمعوننا كلامًا جميلًا منمقًا عن "تخفيف المعاناة"، أن يتحدثوا عن إنهائها، وعلى الذين يتحدثون عن "المساعدات الإنسانية" أن ينهوا حصارًا إسرائيليًا استمر سبعة عشر عامًا (لم يبدأ في السابع من أكتوبر). وعليهم قبل كل ذلك وبعده أن يتحدثوا عن انهاء "الاحتلال".
(خاص "عروبة 22")