وإذا نظرنا على الأقل ظاهريًا للمجتمعات المتقدمة، نراها تعتمد على الأسلوب الديمقراطي بصورة أو بأخرى، في شتى مناحي الحياة؛ كأسلوب تفكير وتدبير، ربما يبدأ في حياة الفرد والجماعة من بداية تشكل الأسرة، ثم الانخراط في سبل الحياة، وأداء الأدوار الفردية والجماعية المختلفة. وبذا، قد يبدو النموذج الديمقراطي الغربي من السعة بمكان، ليشمل أنظمة الاقتصاد والثقافة والتربية والتعليم والتشريع، وغيرها. إذ غالبًا ما يسود الرأي المشترك، كثمرة حوار، ورأي جماعي، في مختلف هذه الظواهر الاجتماعية، التي يمكن القول إنها "دمقرطت" نسبيًا، وباتت تمثل حصيلة حوارات ومشاركات جماعية متباينة!.
ولكن، هل يمكن الوثوق في كل هذه المسائل، وضمان أنها فعلًا تسير وفق النهج الديمقراطي العادل، المتوازن! بمختلف أسسه وأصوله وفروعه، أم أنه في حقيقته هو على خلاف ما يبدو.
ما لم تُحَلّ المشكلة الديمقراطية للتكنولوجيا تبقى المشاكل البشرية معلّقة وتستعصي على الحل
الواقع أنه لا يمكن رؤية المجتمعات البشرية ككل، إلا نظامًا متكاملًا بعناصره وآلياته وأهدافه وحدوده وبيئته... كذلك، ظواهره الكبرى الثابتة هي ضمن مكوناته التي تمثله كأنظمة فرعية، يفترض أن تكون متكافلة، متكاملة، كالسياسة والاجتماع والثقافة والتعليم والقانون والاقتصاد والإنتاج والابتكار والإبداع... فهل يمكن الجزم، بهذا المنظور، أنّ النجاح الديمقراطي السياسي الغربي، بأي شكل كان، هو نجاح إنساني شامل! يأخذ في حسبانه اختلاف ثقافات المجتمعات البشرية؟... طبعًا، لا يمكن.
ذلك أنّ الخلل ظاهرٌ جليّ، في عدم توازن الظواهر المجتمعية الكبرى المشار إليها. فهي لا تسير على وتيرة متكافئة، وقد يتقدم بعضها في حين يتأخر بعضها الآخر. وتتفاوت التطورات والتحولات الاجتماعية بين مجتمع وآخر. وأيضًا، لتباين المجتمعات البشرية في مدى أخذها بهذا النموذج الديمقراطي الغربي من عدمه، ما يؤكد قصوره عن تمثيله للمبادئ الديمقراطية، ويُظهر اختلاله، ويقلل من مستوى نجاحه عالميًا، ويحد من أهميته الحضارية.
من ناحية أخرى، تبقى المسألة الأخطر في حياة الإنسان الحديث، والتي لا تسير حتى الآن، وفق المنهج الديمقراطي السائد! ولم تزل تشغل المفكرين والباحثين المهتمين بتطور المجتمعات ومصير الحضارة الإنسانية، مع أنّ هذه المسألة هي العمود الفقري للحضارة الحية، ولا تقوم ولا تتطور إلا بها، ويرتبط الإنسان بها حاضرًا ومستقبلًا.. ألا وهي المسألة التكنولوجية.
التكنولوجيا، مركّب أساسي في مظاهر الحياة على مختلف الأصعدة المجتمعية. تمثل الخبرة الإنسانية المصنِّعة لها، والمنمذَجة في مصنوعاتها، سواء كونها معرفة قابلة للتطبيق، أو متجسدة في آلةٍ تمدّد وتعظّم القدرة الإنسانية لأجل حياة أفضل، أو كونها سلعة رأسمالية أو استهلاكية؛ فهي بجميع أشكالها تدخل في تشكيل المجتمع بشتى ظواهره. ومن ثم فهي تؤثر فيه وتتأثر به سلبًا وإيجابًا، وهي أيضًا تضع مشكلتها التطورية وآثارها المختلفة أمام الإنسان الذي يصنعها ويطورها بقرارات أحادية أو جماعية محدودة، وحسب أهداف وغايات مؤسسية ممنهجة وفق تصورات واحتياجات الثقافة التي أنتجتها.. وغالبًا، دون الأخذ في الحسبان نماذج أخرى مغايرة لثقافة الغرب المبتكر والمنتِج، مثل الثقافة العربية، وغيرها.
وما لم تُحَلّ هذه المشكلة الديمقراطية للتكنولوجيا من أساسها تبقى جلُّ المشاكل البشرية معلّقة، ويزداد تعقّدها، بل تستعصي على الحل كلما تطورت التكنولوجيا، ولم تدخل عمليًا في سياق تجربة الإنسان الديمقراطية. وستبقى التكنولوجيا في خضم صراعه بين المعنى (الروح) والمبنى (المادة).
لا يكون النقد التكنولوجي سليمًا ما لم يؤلّف بين المعطيات الثقافية والفكرية في مركّب إنساني أكثر وعيًا وأعمق فهمًا
تناول مفكّرو العصر الحديث الذين اهتموا بالفكر التكنولوجي والاجتماعي، هذه المشكلةَ التكنولوجية بآراء نقدية مختلفة، يخلص معظمها إلى ضرورة إيجاد حل كوني يأخذ في اعتباره المتناقضات واختلافات المجتمعات، والاحتياجات، وذلك انطلاقًا من أنّ عملية نقد التكنولوجيا هي مراجعة وتقييم للأفكار العلمية والاقتصادية والسياسية والأفعال المنبثقة عن معايير وقياسات ثقافية معينة، خاصة الغربية؛ بهدف الكشف عن سياقاتها سلبًا وإيجابًا؛ أي تبيان التعارض والتقابل أو التوافق والتمازج فيما بينها، حتى يمكن تصحيح المفاهيم والتصورات والتجارب، وتبنّي المعايير والقوانين الاجتماعية المتجددة التي يجب الاحتكام إليها في مسيرة الاختراع والتصنيع والتطور.
وبالتالي، فالنقد التكنولوجي الجاد، يعبّر بالضرورة عن صحوة الوعي الفردي والجماعي بموازين التغيّر الاجتماعي العالمي، ولا يكون النقد صحيحًا في هذا المسار، وسليمًا من التحيّز، ما لم يؤلّف بين المعطيات الثقافية والفكرية الإنسانية المتقابلة، ويركّب بينها في مركّب إنساني جديد، أرقى، وأكثر وعيًا وأعمق فهمًا.
من هنا، تفرض النظرية النقدية الحديثة منظوراتها التقنية الفاحصة للعقل ومنتجاته العملية، خصوصًا لدى المفكرين الألمان.. بدءًا من مؤسس الفلسفة النقدية إيمانويل كانت؛ ومرورًا بفيلسوف الجدلية التاريخية غيورغ هيغل؛ وأشهر من تأثر بهما، مثل إدموند هوسرل منظّر الظاهراتية؛ ولودفيغ فويرباخ منظّر فلسفة المستقبل؛ وكارل ماركس منظّر الجدلية المادية الذي جمع بين فلسفتي هيغل وفويرباخ؛ ومارتن هايدغر الذي يمكن اعتباره أقرب من بدأ فلسفة التكنولوجيا الحديثة؛ وصولًا لأعلام مدرسة فرانكفورت النقدية، وتحليلات التشيؤ والاغتراب والاستعباد التكنولوجي؛ وضرورة دمقرطة التكنولوجيا.. وانتهاءً بتلاميذهم المعاصرين.
(خاص "عروبة 22")