بصمات

"الفلسفة" والعقل العربي

اتخذ وزير التعليم المصري قبل أشهر قليلة قرارًا صادمًا بإلغاء أو تهميش بعض مقررات الدراسات الإنسانية في المرحلة الثانوية ابتداءً من العام الدراسي الحالي. وربما كان الأخطر في هذا القرار يتعلق بتهميش دراسة الفلسفة، أم العلوم الإنسانية، وملكة الحس النقدي.

قبل الفلسفة كانت لغة الفكر نفسها عقائدية ينطوي استعمالها على التسليم بمضامينها. كما كانت المعرفة مجرد معلومات مكتسبة ومصنفة في جداول يتلقاها العقل باستسلام. لكن، ومع الفلسفة صارت اللغة عقلية، واضحة بذاتها، يمكن فهمها من مضمونها الخاص، الأمر الذي حفز استعمال العقل، وجعل من المعرفة عملية تأويل مستمرة للواقع المحيط بالإنسان.

وبدلًا من جعل الدراسة الفلسفية منوالًا تنسج عليه الدراسات الإنسانية، جرى قصر دراستها على الأقسام الخاصة بها في كليات الآداب، وحرمان خريجي الكليات النظرية الأخرى من المرور ولو العابر على الدراسة الفلسفية، والتعرض ولو لمرة واحدة لشمس العقل النقدي، ناهيك عن حرمان طلاب أقسام الفلسفة أنفسهم من التأسيس الجيد.

فلسفة العلم أحد أهم مباحث الفلسفة الذي يقدّم أجلّ الخدمات المنهجية للعلم الحديث

المفارقة أن يحدث ذلك في مصر التي اعتادت الدراسة الفلسفية في مدارسها وتخرّج في جامعاتها، خصوصًا القاهرة وعين شمس، أجيال تلو أجيال، من أكابر العقول الذين أثروا الحياة الثقافية العربية فكرًا ونقدًا. وأن يحدث في وقت تنبهت فيه بلدان عربية كانت تُحرِّم دراسة الفلسفة إلى خطأ موقفها، وإدخال مقرر الفلسفة بكثافة إلى مدارسها وجامعاتها كالمملكة العربية السعودية، على سبيل المثال.

أما المفارقة الأخطر فهي أن يحدث ذلك في وقت يشكو فيه الجميع من غياب الحس النقدي عن نظام التعليم في جل الدول العربية، ما يفترض إصلاحًا منهجيًا ينقله من التمحور حول محتويات العلوم إلى التمركز حول مناهج البحث، والفلسفة هنا هي مفتاح التغيير. فالتفلسف الحق هو منهج في التفكير، طريقة في مقاربة الحقيقة، محاولة للكشف المتجدد عنها، وليس هو تكرار المفاهيم والقضايا التي تشغل مقررات الدراسة الفلسفية كمفهوم السعادة عند أرسطو، والمُثُل عند أفلاطون، والواجب عند كانط، والمونادا (الجوهر) عند ليبنتز، فهذه المفاهيم لا تعدو أن تكون تاريخًا للفلسفة. ولهذا عاش منهج هيجل الجدلي، وسوف يعيش أكثر كثيرًا من جل القضايا التي تحدّث عنها هيجل.

والأمر نفسه في العلوم الطبيعية، فعلم الفيزياء منهج لفهم الطبيعة وتوظيفها، من خلال قواعد تجريبية ومعادلات رياضية، وليس هو نظرية الجاذبية لدى نيوتن، أو الكم لدى ماكس بلانك، أو النسبية لدى أينشتين. ويمكن أن نقيس على ذلك باقي العلوم، حيث أدى المنهج العلمي إلى اكتشافات رائعة، ولكن ما إن تتحقق تلك الاكتشافات حتى تصير جزءًا من تاريخ العلم، مجرد محتوى قديم يرمز إلى طريقة ما في إعمال العقل، أو إلى نظرية ما في مسار تطور العلم، ولكنه ليس العقل نفسه، ولا العلم ذاته. بل يمكن القول إنّ المنهج الفلسفي هو المنوال الذي نسجت عليه العلوم الطبيعية، حتى أنّ إسحق نيوتن نفسه لم يكن يعتبر نفسه عالمًا، بل فيلسوفًا طبيعيًا، وقد حمل مؤلفه الكبير عن قوانين الحركة والجاذبية اسم "الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية". ولا تزال فلسفة العلم، أحد أهم مباحث الفلسفة، الذي يقدّم أجلّ الخدمات المنهجية للعلم الحديث بالبحث في أصوله وتاريخه ومحدداته وضوابطه.

المتعلّم تعليمًا تلقينيًا تتحول معرفته إلى إيمان دوغماطيقي يجعل منه خطرًا على الجماعة البشرية أكثر من الفرد الأميّ

إنّ الفلسفة هي الباب الواسع الذي يتعيّن فتحه لأجل تعليم منهجي يدفع المتعلّم إلى الشعور بامتلاك مجرد صورة عن الحقيقة، وليس الحقيقة ذاتها حسبما يظن المتعلّم التقليدي الذي يتلقى تعليمًا تلقينيًا فتتحول معرفته إلى إيمان دوغماطيقي يجعل منه خطرًا على الجماعة البشرية أكثر كثيرًا من الفرد الأميّ. إنه جاهل لا يعرف أنه جاهل، أفسد التعليم المشوّه فطرته الإنسانية. أما الأميّ فجاهل يعرف أنه كذلك، ومن ثم يحتفظ ببساطته الفطرية.

ولعلي أذكر هنا مفارقة حدثت بالفعل في عام 2013، حين كان البسطاء أول من شعروا بخواء تجربة "الإخوان المسلمين" في مصر، قياسًا إلى كثيرين نالوا تعليمًا وصفت معاهده بـ"كليات القمّة"، انتموا إلى "الجماعة" تنظيميًا، أو تبنوا رؤاها فكريًا ودافعوا عن مواقفها عمليًا، ورفدوا أحيانًا احتجاجاتها اللاسلمية. وهناك قصة ذاعت في الصحافة عن سائق تاكسي غير متعلّم خاطر بحياته للإمساك بمهندس حاول تفجير نقطة المرور بميدان الجلاء في قلب القاهرة.

لقد تمتع السائق (المصري) بحكمة فطرية تنبض بحب الوطن، ورفض كل ما يهدر مقدراته ويهدد أمنه، عكس المهندس (الإخواني) الذي تعلّم على حساب الوطن ليساهم في مسيرة تقدّمه، وأنفق من ضرائب مواطنيه لكي يخدمهم بعلمه مستقبلًا، فإذا به يستخدم علمه (التقني) المبتور عن أي تصور نقدي في النيل من مقدرات الوطن ومن دماء المواطنين!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن