يتسم البرنامج الاقتصادي لترامب بانحياز واضح للأثرياء والشركات الكبرى عبر وعده بتخفيض الضرائب على أرباحها. والمبرر التقليدي لهذا الإجراء هو أنه سيؤدي إلى حفز الشركات على تحويل أرباحها التي سترتفع إلى استثمارات جديدة تخلق الوظائف للفقراء والطبقة الوسطى وترفع مستويات التشغيل وبالتالي مستويات معيشتهم وفقًا لما يُسمى بنظرية "التساقط" التي يروّجها صندوق النقد الدولي والتي تخلص إلى أنّ استفادة الأثرياء والشركات الكبرى من خفض الضرائب تخلق سلسلة تفاعلات اقتصادية تؤدي إلى تساقط ثمار هذا الإجراء على الفقراء والطبقة الوسطى في صورة وظائف ودخول جديدة.
ولا يناقش دعاة هذا الإجراء، النتائج الواقعية المجرّبة تاريخيًا من أنّ تخفيض الضرائب على الأثرياء والشركات الكبرى يؤدي تلقائيًا إلى زيادة حصة الأثرياء من الناتج، ولا تتحوّل تلك الزيادة بالضرورة إلى استثمارات جديدة، بل إلى مزيد من الترف والرفاهية للأثرياء، وضعف الإيرادات العامة المتاحة لتمويل الخدمات العامة، والمزيد من تراجع حصة الفقراء والطبقة الوسطى من الناتج بما يقيّد حركة الطلب الفعال المحرّك للاستثمار والوظائف والنمو.
الحماية الجمركية عدوانية تجاه الصين والحلفاء وتهدد بحروب تجارية
يتبنى ترامب سياسات حمائية وعدوانية على الصعيد الاقتصادي حتى إزاء أقرب حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا واليابان، فضلًا عن الصين التي يعتبرها العدو الرئيس. وينوي ترامب رفع الرسوم الجمركية على الواردات بنسب متفاوتة بين 10%-20% حسب كل منتج وحسب وجود بدائل له في الولايات المتحدة. وهذه الرسوم ستطال كل حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وكوريا الجنوبية واليابان، فضلًا عن الدول الصناعية الجديدة في شرق وجنوب شرق وجنوب آسيا والأمريكيتين.
الحرب التجارية مع الصين تؤدي لارتفاع كبير في أسعار السلع في الولايات المتحدة سوف تعاني منه كل الطبقات
وسوف تتضرر أوروبا بالذات من نوايا ترامب لتقييد الواردات الزراعية الخام والمصنوعة. أما الصين التي يكنّ لها عداء أيديولوجي وقومي صريح رغم أنها ثاني أهم شريك تجاري للولايات المتحدة بعد كندا، فيعدها بفرض رسوم جمركية على الواردات منها بنسب قد تصل إلى 60% على بعض المنتجات، وهو ما قد يؤدي لحرب تجارية بين الدولتين تؤدي لارتفاع كبير في أسعار السلع في الولايات المتحدة، وهو ما سوف تعاني منه كل الطبقات، وبخاصة الطبقتان الوسطى والفقيرة.
وحتى ثالث أهم شريك تجاري للولايات المتحدة وهي المكسيك، فإنه يعدها بفرض رسوم على صادرتها من السيارات للسوق الأمريكية بنسبة قد تصل إلى 200%. وتلك الإجراءات في مجملها معادية لحرية التجارة التي حملت الولايات المتحدة لواءها منذ ثمانية عقود على الأقل وصدعت العالم بها وفرضتها على الدول النامية والمتعثرة ماليًا، بينما تسحقها هي عندما تتعارض مع مصالحها. ويقدّم ترامب تلك الإجراءات باعتبارها وسيلة لإعادة الشركات الأمريكية توطين استثماراتها وإنتاجها داخل الولايات المتحدة، وجذب استثمارات أجنبية للسوق الأمريكية بما يخلق الوظائف. لكن النتيجة المؤكدة والفورية لتلك الإجراءات هي رفع أسعار السلع المستوردة والمحلية المناظرة بما يضر بهدفه المعلن بالعمل على تخفيض معدل التضخم. وهذا الارتفاع للأسعار سوف يضر بمستويات معيشة الفقراء والطبقة الوسطى.
كما أنّ فرض تلك الإجراءات على الدول الأخرى بصورة حمائية وعدائية لن يمر بلا رد، فتلك الدول لديها ما توجع به الولايات المتحدة من إجراءات تقييدية لوارداتها منها، بما سيؤثر سلبيًا على الصناعات الأمريكية المعتمدة على تصدير جانب مهم من إنتاجها للخارج، بما سيؤدي إلى تراجع إنتاجها وأرباحها والوظائف التي تتيحها.
أما الاقتراح العدواني والعنصري تجاه المهاجرين الجدد المتواجدين بصورة غير قانونية وإعلانه الصريح عن نيته ترحيل 1,3 مليون من العمال غير القانونيين، فإنه سوف يخلق حالة من الاضطراب في المجتمعات المرتبطة بهم داخل أمّة مكوّنة من المهاجرين أصلًا. وفضلًا عن ذلك فإنّ العمالة البديلة من المواطنين أعلى أجرًا بكثير مما سيرفع تكاليف الإنتاج وبالذات في القطاعات التي تعتمد على العمالة غير القانونية مثل القطاع الزراعي وقطاعي الإنشاءات والنظافة. كما سيؤدي لخفض القدرة التنافسية للاقتصاد الأمريكي.
ومن الاتفاقات النادرة التي برزت بين ترامب وكمالا هاريس، عزمهما إنهاء الضرائب الفيدرالية على الإكراميات باعتبارها منحة طوعية لا يجب أن تخضع للضريبة.
تخفيض فواتير الطاقة ينذر بضغوط أمريكية على أسعار النفط والغاز
يعد ترامب بتخفيض فواتير الطاقة للنصف، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا بخفض الضرائب على استهلاك مواد الطاقة، أو تخفيض أسعار مصادرها الأساسية أي النفط والغاز عبر الضغط على الشركات الأمريكية المنتجة لهما، وعلى الدول المصدّرة لهما وعلى رأسها الدول العربية المصدّرة للنفط. لكن تخفيض أسعار النفط عن 50 دولارًا للبرميل يعني إحداث أزمة كبرى وربما انهيار في صناعة استخراج النفط الصخري في الولايات المتحدة، حيث أنّ هذا هو الحد الأدنى الضروري لاستمرار الإنتاج وتعويض تكلفته مع هامش ربح ضئيل، وكذلك الأمر بالنسبة للغاز الصخري، علما بأنهما يشكلان الجانب الأكبر من الإنتاج الأمريكي من النفط والغاز حاليًا. لكن ترامب يمكن أن يعالج ذلك بالضغط على منتجي النفط والغاز وبالذات في دول الخليج العربية لخفض الأسعار، في حدود لا تضر بقطاع النفط والغاز الصخريين في الولايات المتحدة.
عهد من العنصرية والاستقطاب الاقتصادي والطبقي الداخلي والدعم المطلق للعدوانية الصهيونية ينتظر العالم والعرب
وفضلًا عن كل ذلك، فإنّ ترامب ينوي استكمال ما فعله في فترة رئاسته السابقة من الابتزاز المالي لحلفاء الولايات المتحدة في أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية والخليج لدفع ثمن الوجود العسكري الأمريكي على أراضيهم بدعوى حمايتهم!
ويمكن القول إجمالًا إنّ عهدًا من العنصرية والاستقطاب الاقتصادي والطبقي الداخلي، والعدوانية الاقتصادية تجاه الصين والصراعات التجارية الدولية حتى مع الحلفاء، والليونة في معالجة الأزمة الأوكرانية انتقامًا من العلاقات القوية التي تربط بايدن ونجله بالرئيس الأوكراني، والدعم المطلق للعدوانية الصهيونية في المنطقة العربية، ينتظر العالم والعرب مع فوز ترامب.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")