هكذا، قلب الاستعمار الفرنسي النظام الاجتماعي في تونس لصالحه، بمحاصرة الحرفة التقليدية والتجارة المحلية في أسواق المدن، وبنزع ملكية الأرض من الفلاحين الصغار ووضعها تحت تصرف الرأسمال الزراعي الفرنسي في القرى. وهذا ما يُسميه رضا الزواري بـ"تسرّب الرأسمالية إلى تونس في عهد الحماية" في كتاب له بهذا العنوان. إنّها عملية معقدة كان الغرض منها "تفتيت العلاقات الما قبل رأسمالية في تونس عبر عملية تاريخية معقدة"، وتمت بالسطو المباشر على الأراضي، وفرض قوانين استعمارية، وفرض ضرائب وقروض ربوية، والتفتيت حسب مصلحة الاستعمار (في حدود معينة/جزئيًا لا كليًا).
بعد استقلالها (1956)، اضطرت تونس لنوع جديد من الديون. فإذا كانت الديون الأولى - ما قبل الاستعمار الفرنسي - ديونًا تتنافس فيها بنوك الرأسمال الاحتكاري، فإنّ ديون ما بعد الاستقلال اتسمت بخصائص عولمية إمبريالية، بحيث يفرضها من جهة واقع التبعية والضعف الاقتصادي الذي خلفه "الاستعمار القديم"، ومن جهة أخرى تنفذها مؤسّسات مالية عالمية إمبريالية من قبيل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، إلخ (عبد الهادي بوطالب، العالم ليس سِلعة).
صندوق النقد يفرض على تونس إملاءات تُكرّس مديونيتها وتُضاعفها ما يُهدّد الاقتصاد التونسي بفقدان استقلاله أكثر
وانتقلت تونس خلال فترة استقلالها (من 1956 إلى اليوم) من نموذج "الاستدانة للتجهيز والاستثمار" إلى "نموذج الاستدانة لرد الديون". (دراسة "تونس: الديون والثورة.. حصاد عشرية الإفقار النيوليبرالي"، الشبكة الدولية للجنة من أجل إلغاء الديون غير المشروعة، 22 مايو/أيار 2024)
وفي شرط ضعف الاقتصاد وقلة الموارد وعجز الميزانية، كما هو حال تونس اليوم، تكاد تونس لا تجد سبيلًا للخروج من أزمة ديونها إلّا عن طريق: اتباع سياسة تقشفية تثير غضب الفئات الاجتماعية الوسطى والدنيا، من عمال وفلاحين وكادحين، أو سياسة ضريبية صارمة تستهدف الرأسمال وتضعف الوطني منه، أو سياسة الاقتراض من بعض دول الإقليم وتقديم تنازلات سياسية ودبلوماسية لمصلحتها (العلاقة بالجزائر نموذجًا). أمّا صندوق النقد الدولي فيفرض عليها إملاءات تُكرّس مديونيتها وتُضاعفها، وهو ما يُهدّد الاقتصاد التونسي بفقدان استقلاله أكثر مما هو عليه اليوم.
بخصوص السياسات التقشفية فقد جربتها تونس مع دولة "ابن علي" (المرجع نفسه، دراسة الشبكة أعلاه) فكادت تعصف باستقرار الدولة في 2010-2011، أضف إلى ذلك افتقار الإدارة التونسية الحالية لمناعة سياسية تخولها القدرة على تطبيق سياسة التقشف إلى حد بعيد.
أمّا السياسة الضريبية الصارمة في علاقة الدولة بالشركات فهي جد مستعصية أيضًا، لأنّها تُضعف الاستثمار الأجنبي إذا وجِّهت للرأسمال الخارجي، وتضعف الرأسمال الوطني إذا وُجّهت إلى الشركات التونسية. فيبقى أمام الإدارة التونسية خيارٌ وحيدٌ، أو هو الأقرب إلى حفظ وجودها؛ يتجلى هذا الخيار في الانفتاح على محيطها الإقليمي وعلاقاتها الدولية. وممّا يجدر التنبيه إليه أنّ هذا الاختيار لا يفتح أمام تونس أبوابًا متعدّدة لا "رقابة" عليها، ففرنسا ذات نفوذ قديم فيها، والجزائر على حدودها، وأمريكا تضغط لتوسيع الحظوظ فيها، والصين لا تراهن على خيارات ضعيفة ومهددة وغير مؤمَّنة، إلخ.
يشترط صندوق النقد الدولي على تونس سياسات اقتصادية ستسقطها في ما تتلافاه (مؤدى السياسات التقشفية)، وهي حالة أشبه بالشروط التي اشترطتها ذات المؤسّسة المالية الدائنة على مصر في فترة حكم أنور السادات قبل أن يضطر إلى توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" (1978). تطالب هذه السياسات برفع الدعم عن بعض المواد الأساسية، وهو ما من شأنه أن يثير غضب فئات اجتماعية واسعة لا قدرة لها على التأقلم مع حالة ارتفاع الأسعار. وإذا كانت تونس تهتم بواقعها الاقتصادي عمومًا، وإذا كانت في حاجة فعلية إلى دين أجنبي يمَكنها من الصمود الاقتصادي مؤقتًا، فإنّها أكثر من ذلك في حاجة إلى استقرار الدولة وتماسك المجتمع، فهما الوعاء السياسي والاجتماعي لكل اقتصاد.
سياسة تنويع الشركاء قد تكون ناجحة بالنسبة إلى تونس فالرهان على طرف وحيد لن ينفعها
ولهذا تفضل تونس اللجوء إلى تسويات إقليمية بدل الارتماء في أحضان إملاءات صندوق النقد الدولي. وهنا يُطرَح سؤال مهم على إدارة الدولة التونسية: إلى أي حد تستطيع هذه التسويات الإقليمية الصمود أمام الاحتياج التونسي وضغوط المؤسسات الدائنة؟ هناك من قد يتحدث عن تدبير مؤقت ينهيه تحوّل الواقع المالي الدولي، وإعادة ترتيب الأوراق والفاعلين داخل المؤسسات النقدية الدولية. ولكن زمن هذا التدبير قد يطول، فبأيّ وسيلة وبأيّ سياسة تستطيع تونس التعامل مع طول أمده؟.
هناك سياسة قد تكون ناجحة بالنسبة إلى تونس، وهي تنويع الشركاء، لا الدوليين فحسب، بل الإقليميين أيضًا. فمهما اضطرت تونس إلى الانخراط في حلف من الأحلاف الإقليمية أو الدولية، فإنّ الرهان على طرف وحيد لن ينفعها في المستقبل.. بل حتى في المستقبل القريب!.
(خاص "عروبة 22")