وفقًا لتقدير شركة "Henley and Partners"، المُتخصّصة في رصد هجرة الأغنياء، فإنّ عام 2025، شهد أكبر هجرة للأثرياء تمّ تسجيلها، حيث من المتوقّع أن يهاجر أكثر من 142 ألف مليونير، وهذا ارتفاعٌ مهمٌ مقارنة بـ134 ألفًا سنة 2024، و110 آلاف سنة 2019 قبل جائحة "كورونا". ومن المتوقّع أن يستمر الارتفاع، ليصل سنة 2026 إلى حوالى 165 ألف مليونير.
واتفق أغلب الخبراء، على أسباب ودوافع هجرة الأثرياء، حيث يؤكدون على عوامل عدم اليقين السياسي والاضطرابات الاقتصادية والسياسات الضريبية. فالأغنياء يبحثون عن دولٍ ذات سياسات ضريبية أقلّ صرامة وينجذبون نحو المناطق التي تُعتبر "جنّاتٍ ضريبيةً"، أو بلدانٍ تتميّز بالمرونة والمزايا الضريبية مثل موناكو وسويسرا والإمارات العربية المتحدة.
يتجه أغلب الأثرياء من أميركا إلى موناكو أو سويسرا أو الإمارات العربية المتحدة
لقد دفعت ضريبة الدخل التصاعديّة أو ضريبة الثروة، عددًا من الأثرياء إلى مغادرة بلدانهم، ومثال على ذلك حينما فرضت فرنسا ضريبةً بنسبة 75 بالمائة على الدخل الذي يتجاوز مليون يورو سنويًا، غادر الممثل الفرنسي جيرار ديبارديو (Gérard Depardieu)، فرنسا متوجّهًا إلى بلجيكا بدايةً وروسيا لاحقًا. كما أنّ تبنّي بعض الدول لضرائب مرتفعة، بسبب تأثير الخطابات الشعبويّة، كان سببًا في شعور الأغنياء "بالظلم" وعدم تقدير مهامهم وبالتالي الشعور بالتهديد، ومثال على ذلك تأثير السياسات الاشتراكية في فنزويلا بشكلٍ سلبيّ على أصحاب الثروات، مما دفعهم إلى الهجرة نحو أميركا أو إسبانيا.
لقد وفّر إيلون ماسك نفسه، ملايين الدولارات، بفضل انتقاله من ولاية كاليفورنيا إلى ولاية تكساس، وهناك من الأغنياء من ينتقل إلى بورتوريكو، التي تمنح إعفاءاتٍ ضريبيةً مُهمّةً بموجب قانون خاصّ بالمستثمرين. ومن المُلاحظ، وفقًا لتقارير عدّة للخزانة الأميركية، أنّ حوالى 6700 أميركي تخلّوا عن الجنسية الأميركية تجنّبًا لارتفاع الضرائب على الدخل والثروة، ويتجه أغلب الأثرياء من أميركا إلى موناكو أو سويسرا أو الإمارات العربية المتحدة.
تفوّق المدن التي تجمع بين حرية الاستثمار وجودة الحياة في سياق اجتذاب رؤوس الأموال المتنقلة
ووفقًا لتقرير "Henley and Partners"، في عام 2023 هاجر أكثر من 10800 مليونير صيني نحو سنغافورة، كما تُعتبر هونغ كونغ ملاذًا ضريبيًا، بل يستفيد "جاك ما" (Jack Ma)، مؤسّس شركة "علي بابا" من النظام الضريبي المنخفض فيها. ويستثمر الأغنياء الصينيون في شراء العقارات في فانكوفر في كندا وفي سيدني في أستراليا، ويحصلون على الجنسية بالاستثمار من مالطا وقبرص، حيث هناك تراجع في الاستثمار مقابل الإقامة.
ووفقًا لتقرير صادر عن منظمة "Hurun Report" لسنة 2023، فإنّ الصين لديها العدد الأكبر من المليارديرات في العالم، حوالى 1133 سنة 2022، ولكنّهم هاجروا إلى سنغافورة ودبي.
ويقول الدكتور يورغ شتيفن (Juerg Steffen)، الرئيس التنفيذي لشركة "Henley and Partners" إنّ هناك نمطًا واضحًا بدأ يتشكّل في عام 2025، يتمثّل في تفوّق المدن التي تجمع بين حرية الاستثمار وجودة الحياة، في سياق اجتذاب رؤوس الأموال المتنقلة، مُضيفًا أنّ "هذه المراكز الحضرية تشترك في خصائص أساسية، منها وجود أطر قانونية، وبنية تحتية مالية متطوّرة، وربّما الأهم من ذلك، برامج هجرة استثمارية تُرحّب بالمواهب العالية ورؤوس الأموال، إذ إنّ سبعًا من أصل أغنى عشر مدن في العالم تقع في دولٍ تُتيح الإقامة عبر برامج الاستثمار، ممّا يوفّر مسارات مباشرة لروّاد الأعمال والمستثمرين الراغبين بالوصول إلى هذه المراكز المالية".
على الحواضر العربية تفعيل سياسات الرقمنة ومحاربة الفساد والجريمة وسَنّ منظومة قانونية مشجّعة للاستثمار
عمومًا، فإنّ جذب أثرياء العالم وما يرافق ذلك من انتقالٍ لرؤوس الأموال ونموّ اقتصادي، هو صراعٌ حاد بين الدول وحواضر العالم، وتنافسٌ في توفير بيئة حاضنة ومشجعة للاستثمار، وما زال أمام الحواضر العربية عملًا كبيرًا، للوصول إلى مستوى منافسة باقي الحواضر العالمية في هذا المجال. وأهمّ شيء هو توفير جودة في الخدمات ونظافة للمدن وتفعيل سياسات الرقمنة ومحاربة الفساد والجريمة وسَنّ منظومة قانونية مشجّعة للاستثمار وبنية تحتية ومناطق توفّر رفاهية العيش لهذه الشريحة. لكنّ ذلك يجب أن لا يكون على حساب الفئات الاجتماعية الأخرى، ولا أن يُكرّس سياسة الناقضات المجالية والمفارقات الاجتماعية. إنّ جذب الأغنياء ورؤوس الأموال المتنقّلة، يجب أن يندرج ضمن سياسة متكاملة لرقيّ المجتمع، وضمن ميثاق أخلاقي يوازنُ بين حقوق الأغنياء والفقراء.
(خاص "عروبة 22")