اقتصاد ومال

الصندوق إلى مصر مجدّدًا: انتشال "السفينة الغارقة!"

القاهرة - أحمد أبو المعاطي

المشاركة

أثارت تصريحات أطلقها رئيس الوزراء المصري مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حول احتمال لجوء حكومته إلى ما وصفه بـ"اقتصاد الحرب"، في ظل اشتعال الأوضاع في المنطقة، مخاوف قطاعات واسعة من المصريين من موجة غلاء جديدة، قد تؤدي إلى انفجار شعبي كبير، يقوّض، إذا ما أفلتت الأمور من عقالها، حالة الاستقرار النسبي في بلد يزيد تعداد سكانه على 110 ملايين نسمة، ويعيش ثلثهم على الأقل في فقر مدقع.

الصندوق إلى مصر مجدّدًا: انتشال

بدت التصريحات التي أطلقها مدبولي في مؤتمر صحافي، أقرب ما تكون إلى "قصف تمهيدي" لتهيئة الأجواء، أمام زيارة تأخرت شهرًا كاملًا لوفد من صندوق النقد الدولي، بغية إجراء مراجعة رابعة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي الجديد، الذي بدأته مصر عام 2017، وحصلت بمقتضاه من صندوق النقد على 14.7 مليار دولار، لتتحول في غضون السنوات السبع الماضية، إلى ثاني أكبر عميل للصندوق بعد الأرجنتين، التي تقدّر مديونيتها للصندوق بنحو 40.9 مليار دولار.

وحسب الكثير من الخبراء، فقد بات صندوق النقد الدولي "الأب الروحي" لسياسة الاقتراض الخارجي التي انتهجتها مصر منذ عام 2013، واستمرت على مدار أكثر من عقد كامل، أُهدرت خلاله عشرات المليارات من الدولارات على حزمة من المشروعات الضخمة، ساهمت بصورة مباشرة في رفع ديون مصر من 70% من الناتج الإجمالي المحلي عام 2010، إلى ما يزيد على 96% عام 2023.

وعزّز ذلك على نحوٍ كبير حضور صندوق النقد الدولي، ومن خلفه البنك الدولي بالطبع، في صناعة السياسة الاقتصادية التي انتهجتها مصر على مدار السنوات السبع الماضية على وجه الخصوص، وما أحدثته تلك السياسات القاسية من تأثيرات سلبية في قطاعات واسعة من المواطنين، قبل أن تنتهي إلى ارتفاع معدل الفقر بين المصريين ـ حسب تقديرات البنك الدولي ـ إلى نحو 32.5% (مع انضمام أكثر من عشرة ملايين مصري إلى قطاع الفقراء في السنوات العشر الأخيرة)، بعدما ظلت هذه النسبة تراوح ما بين 25 و27% حتى أربع سنوات خلت، وسط توقعات أن تتجاوز معدلات الفقر نسبة 35% مطلع العام المقبل، إذا ما استمرت الحكومة المصرية في تطبيق تلك الاجراءات.

وتبدو المراجعة الرابعة التي أجراها الصندوق، ولا تزال تتعامل الحكومة المصرية مع تفاصيلها باعتبارها "سرًا حربيًا"، في نظر الكثير من الخبراء، أشبه بمحاولة أخيرة لانتشال "سفينة الاقتصاد الغارقة"، في بلد يعيش واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخه الحديث، علمًا أن ذاكرته لا تزال تحفل بالعديد من التجارب المؤلمة، من مغبة الارتهان إلى المؤسسات الأجنبية المانحة، وما يؤدي ذلك ـ بحكم دروس التاريخ ـ إلى أزمات كبرى، تبدأ دائمًا بفرض الوصاية الخارجية على الميزانية العامة للدولة المصرية، على نحو ما جرى أيام الخديوي اسماعيل، وتنتهي دائمًا إلى الاحتلال بمختلف صوره.

ولا يخفي الكثير من المصريين تخوفهم من أن تكون المراجعة الرابعة للصندوق، التي ستحصل بمقتضاها مصر، حسب الدكتور فخري الفقي، رئيس لجنة الخطة والموازنة في مجلس النواب والخبير السابق في الصندوق، على نحو 1.2 مليار دولار جديد، يضاف الى جملة ديونها للصندوق التي تزيد على 14.9 مليار دولار، مجرد ضربة البداية نحو تحريرٍ جديد لسعر الصرف، يقفز بسعر العملات الأجنبية إلى أرقام غير مسبوقة، بالتزامن مع رفعٍ جديد للدعم الحكومي للكثير من الخدمات، مما قد يضع البلاد على شفا انفجار كبير، وهي نتيجة تبدو حتمية.

وحسب قراءة مدقّقة للكثير من التجارب السابقة لآليات تعامل صندوق النقد مع العديد من الدول النامية، عبر حزمة برامجه المختلفة، يهدف الصندوق إلى تحقيق التوازن النقدي فقط للدول المقترضة، من دون مراعاة لما قد تؤدي إليه تلك البرامج من كلفة اجتماعية باهظة، تنتهي دائمًا بانتفاضات شعبية، وهو ما بات يفرض على الحكومة المصرية البحث عن حلول واقعية، للخروج من تلك الدائرة.

وتقول الدكتورة قمر أبو العلا، الأستاذ المساعد للاقتصاد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، إنّ هذه الحلول تبدأ بعدم إجراء أي تخفيضات جديدة للجنيه المصري، مشيرةً الى أنّ مصر باستطاعتها التوقف عن سياسة الاقتراض من الصندوق، عبر حزمة من الحلول البديلة، للحصول على قروض من جهات أخرى، من بينها مجموعة دول "البريكس"، التي انضمت مصر إليها رسميًا مطلع العام الجاري، والتي يمكن من خلالها الحصول على فرص للتمويل غير مشروطة، من بنك التنمية الجديد NDB، إلى جانب استغلال الفرص المتاحة للتبادل التجاري مع الدول الأعضاء، وبالعملات المحلية لتلك الدول، مما يخفّف الضغط على الموارد من العملات الأجنبية، فضلًا عن تكثيف المشاورات مع الدول العربية والأجنبية الصديقة، للحصول على ودائع بالعملات الأجنبية لآجال طويلة المدى، والتي من شأنها أن تدعم الاحتياطي المصري من النقد الأجنبي.

ويُرجع الدكتور جوده عبد الخالق، أستاذ الاقتصاد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، ووزير التموين والتجارة الداخلية الأسبق، السبب الرئيسي لسلسلة الأزمات الاقتصادية التي عانتها مصر في السنوات الأخيرة، إلى التراجع الملحوظ لقطاعات الانتاج الأساسية، وهو ما أدى إلى تفشّي أعراض ما يُعرف بـ"المرض الهولندي" في أوصال الاقتصاد المصري، وتعرّضه للاهتزاز ومخاطر "اللايقين" في مواجهة تقلّبات سعر الصرف.

ويوضح عبد الخالق أنّ عملية التجويف التي تعرّض لها الاقتصاد المصري، والتي تمثلت في تراجع الأنشطة الرئيسية مثل الزراعة والصناعة، مثَّل تحوّلًا هيكليًا في القاعدة الإنتاجية للاقتصاد نحو الهشاشة أكثر من الصلابة والصمود في مواجهة الأزمات، ومن ثم فلا بديل أمام مصر للخروج من حلقة الهشاشة، سوى تبنّي سياسات داعمة لتعميق التصنيع وتكامل قطاعات الانتاج الوطنية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن