في اليوم التالي مباشرةً، خصّصت الـ"جيروزاليم بوست" الإسرائيلية اليمينية افتتاحيتها لخطاب "عاطفي" من محرّريها إلى عرّاب الصفقة، صهر الرئيس، وعنونته كالتالي: "العزيز جاريد كوشنر، الشعب اليهودي بحاجة إليك" (Dear Jared Kushner, the Jewish people need you). في اليوم عينه، لم يتأخر بتسلئيل سموتريتش (وزير المالية الاسرائيلي) عن القول بأنّ علينا انتهاز "فرصة ترامب" لتأكيد سيطرتنا على "يهودا والسامرة" يقصد الضفة الغربية المحتلة، مضيفًا أن لا مكان للفلسطينيين ولا لدولة فلسطينية "هنا". علينا أن ننهي الصراع العربي - الإسرائيلي "هكذا".
ربما لا جديد فيما يقوله الوزير الإسرائيلي، ولكن الجديد أنّ ترامب بعد ساعات من تصريح سموتريتش، أعلن اختياره لمايك هاكابي، حاكم ولاية أركنساس ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى الدولة العبرية. للرجل تصريحات شهيرة تتطابق حرفيًا مع ما يقوله الوزير الإسرائيلي المتطرف. يقول في إحداها: "يهودا والسامرة جزء لا يتجزأ من إسرائيل... وعلى الجميع أن يفهم ذلك"، ويقول في الآخر: "لا يوجد شيء اسمه فلسطيني". هكذا ببساطة! أين سيذهب ملايين الفلسطينيين إذن؟ الحل عند ماكابي الذي اختاره ترامب. يقول نصًا: "إذا تم إنشاء دولة فلسطينية، فيجب أن تكون في دول مجاورة مثل مصر أو سوريا أو الأردن، وليس داخل حدود إسرائيل" (الرابط لتصريحاته تلك هنا).
الحقيقة التي خسرنا يوم نسيناها هي أننا لا نحارب إسرائيل فقط بل "ومن هم وراء إسرائيل"
لا يختلف ما يقوله السفير الذي اختاره ترامب، عن المواقف المعلنة لبقية الفريق الرئاسي المتوقع. أو على الأقل كل من أعلن عن أسمائهم حتى الآن.
المفارقة أنّ إعلان الاختيارات الرئاسية تلك، الواضح تماهي مواقفها مع مخطّطات الشرق الأوسط (الإسرائيلي) الجديد، والتي لا تعر وزنًا لوجود عرب ومسلمين يعدّون بالملايين في هذا الشرق الأوسط، جاء عشية انعقاد القمة العربية - الإسلامية في الرياض قبل أيام، والتي أعلنت موقفًا واضحًا، نتمنى أن يكون مُلزِمًا لكل من حضر، يتمسك بإنهاء الاحتلال والعودة إلى حدود ما قبل 1967، قبل أي خطوة تطبيعية جديدة، فضلًا عن إجراءات لتجميد عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة.
إلى أي مدى سيكترث ترامب؛ الذي قال إبّان حملته الانتخابية إنّ مساحة إسرائيل "أقل مما ينبغي"، لمقررات القمة تلك؟ وإلى أي مدى سيكترث أركان إدارته الجديدة ذات المواقف المسبقة المؤيِّدة للاستيطان (الاحتلال/الاستعمار) الإسرائيلي في الأراضي العربية؟.
أحسب أنّ الإجابة ليست في واشنطن، بل في الرياض ذاتها، حيث انعقدت القمة، وحيث سمعنا بيانها الختامي، وحيث كان ترامب ذاته، للمفارقة ضيفًا على التئامها الأول (مايو/أيار 2017).
راهن العرب على الإدارة (الرعاية) الأميركية مبكرًا جدًا، منذ أن اعتبر أنور السادات، رئيس الدولة العربية المركزية (أو التي كانت) أنّ 99٪ من أوراق اللعبة في يد الأميركيين (1977)، إلا أنّ واقع التماهي الأميركي مع إسرائيل، وبغضّ النظر عن أسبابه التي تتداخل فيها حسابات المال والنفوذ مع الأساطير المقدّسة لم يكن ليسمح أبدًا بأن تكون واشنطن وسيطًا كفؤًا، دعك من أن يكون محايدًا أو عادلًا. وأنّ الحقيقة التي خسرنا يوم نسيناها هي أننا، في التحليل النهائي لا نحارب إسرائيل فقط، بل "ومن هم وراء إسرائيل"، كما هي مقولة جمال عبد الناصر الأقدم مما قاله السادات.
خيار السلام الذي قرّره العرب في قمّتهم البيروتيّة قبل عقديْن من الزمان ليس خيارًا إسرائيليًا ولا أميركيًا
بلغة الأرقام، يكفيك أن تراجع:
ديبلوماسيًا، عدد المرات التي استخدمت فيها واشنطن حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لحماية إسرائيل.
وعسكريًا، حجم الأسلحة التي قدّمتها واشنطن على مدى العام الماضي فقط لتقتل بها ما يقرب من خمسين ألفًا من الفلسطينيين في غزّة.
وبعد،
فها هو ترامب عائد بجموحه وفريقه المتعصب إلى البيت الأبيض. وها هم الإسرائيليون لا يخفون ليس فقط غبطتهم بعودته، بل نيتهم لانتهاز الفرصة لتحقيق حلمهم "الاستراتيجي" القديم؛ شرق أوسط جديد، لا مكان فيه للعالم العربي الذي عرفناه، بل لإقليم واسع تهيمن عليه الدولة العبرية، بأجندتها الواضحة والخفية، وغطرستها التي لا تخفى على أحد.
هل رأيتم "الملصق الضخم" الذي غطى شوارع تل أبيب احتفالًا بفوز ترامب؟ كان يحمل شعارًا واحدًا، مختصرًا ودالًا: "Congratulations! Trump, Make Israel Great".
أما والحال هكذا، ماذا يمكننا إذن أن نفعل؟
علينا على الأقل أن نرى الأمور على ما هي عليه. وأن نعلم أنّ خيار السلام الذي قرّره العرب في قمّتهم البيروتيّة قبل عقديْن من الزمان ليس خيارًا إسرائيليًا، ولا أميركيًا. وأنّ المراهنة على وسيط لا يخفي انحيازه (الكامل، والمطلق) للسيناريوات التوسّعية الإسرائيلية "المعلنة"، ليس فقط جغرافيًا، بل هيمنةً وسيطرةً على الإقليم بأكمله، لا يندرج في باب العبث أو الغفلة، بل أكثر من ذلك بكثير.
لا نملك قرار الفاعلين في واشنطن ولكننا نملك القرار في الرياض
ندرك أنّ ما بين واشنطن والرياض قديم ومتقاطع ومركّب، خاصة في "الزمن السعودي الجديد"، ولكننا نعلم أيضًا أنّ "للأولويات فقهًا"، وأنّ "ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب".
نحن لا نملك قرار الفاعلين في واشنطن، وقد اتخذوا فعلًا قرارهم. ولكننا نملك القرار في الرياض، كما قرأناه في "بيان قمتها الختامي"، فليتنا نعضّ عليه بالنواجذ.
طوبى للمقاومين الذين رأوا الخطر محدقًا فقرروا مقاومته، وطوبى للصامدين في غزّة (المحاصرة) الذين لا يدافعون بصمودهم هذا عن أنفسهم، أو أرضهم فحسب، بل عن "شرف" كل أولئك الذين اجتمعوا قبل أيام في الرياض.
(خاص "عروبة 22")