بدواعي لملمة أوضاعه السياسيّة المهتزّة على خلفيّة إخفاقه في حسم أي من أهدافه المعلنة حتى الآن على جبهتَيّ غزّة ولبنان، على الرغم مما ارتكبه من تدميرٍ وتقتيلٍ واستباحةٍ لكل معنى سياسي أو إنساني، بدا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مستعدًّا لتبنّي الفكرة عينها رهانًا على دعم حليفه التاريخي العائد إلى الرئاسة الأميركية في 20 يناير/كانون الثاني 2025.
إننا أمام حقبةٍ جديدة في الشرق الأوسط توشك أن تعلن عن نفسها مع صعود ترامب، أطلق عليها وزير خارجيته المزمع السيناتور ماركو روبيو: "سلام القوة" – هكذا بالحرف.
بالتكوين السياسي والإيديولوجي لمجْمل مرشّحي ترامب للمواقع القياديّة الرئيسيّة في إدارته، فإنهم يتبنّون السرديّة الإسرائيليّة بأشدّ صياغتها يمينيةً وتطرّفًا.
لا حضور عربي مؤثر ولا كلمة موحّدة قادرة على إيقاف ما أسماها عمرو موسى "الحقبة السوداء"
"من حق إسرائيل أن تضم الضفّة الغربيّة إليها"، كانت تلك من حيثيات تعيين مايك هاكابي، حاكم ولاية أركنساس السابق، سفيرًا لدى تل أبيب.
خطوات الضم جاهزة وإجراءاتها شبه معلنة، لكنها سوف تمضي بخطى أسرع استنادًا إلى دعم ترامب وإدارته الأكثر صهيونيّةً بالقياس على أي إدارة أميركية سابقة.
لم يكن الإعلان بعينه جديدًا ولا مفاجئًا، لكنه بدا تدشينًا لحربٍ جديدة، وجودية بأي معنى تاريخي، يُراد بها التقويض النهائي للقضيّة الفلسطينيّة وإعادة رسم الخرائط السياسية والجغرافية للشرق الأوسط كله.
إسرائيل ليست قويّةً إلى هذا الحد ولا نحن ضعفاء إلى هذا الحد... هذه حقيقة أثبتت نفسها في حربَيْ غزّة ولبنان.
في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تلقّت إسرائيل هزيمةً استراتيجيّةً كادت أن تقوّض ثقتها في جيشها واستخباراتها لولا تدخُّل الولايات المتحدة لإنقاذها وتخاذُل العالم العربي عن إسناد المقاومة الفلسطينية باستثناء لبنان، الذي دفع ثمنًا باهظًا لدوره المقدّر بأي حساب.
إسرائيل تحارب بعضلات غيرها... هذه حقيقة أخرى.
لم يكن إعلان "سموتريتش" خروجًا عن سياق الحوادث.
بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، اتّسع الاستيطان في الضفّة الغربيّة خشية أن تُفضي تداعياته إلى توفير بيئةٍ دوليةٍ ضاغطة من أجل إنشاء دولةٍ فلسطينيّةٍ على الأراضي المحتلة منذ يونيو/حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقيّة.
لم يُعهد عن ترامب استخدام تعبير الدولة الفلسطينيّة، وهو يوافق من حيث المبدأ على فرض السيادة الإسرائيليّة على كامل الضفّة الغربيّة، ولا يمانع في ضمّ أراضٍ عربية أخرى إليها حتى لا تظل محدودة ومحاصرة.
وحسبما هو معلن ومنسوب إلى سموتريتش، فإنّ إسرائيل تعمل على ضمّ أجزاء من سيناء والأردن وسوريا والعراق والسعودية إليها!
نتنياهو نفسه استعرض أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة خرائط جديدة للشرق الأوسط، كأنه قوّة قاهرة فوق القانون الدولي.
قد يُقال - وهو صحيح - إنّ ضم الضفّة الغربيّة انتهاك صريح للقانون الدولي الإنساني ولقرارات مجلس الأمن والجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، وانتهاك آخر للرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدوليّة الذي جرّم الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينيّة.
وقد يقال - وهو صحيح أيضًا - إنه يُلغي اتفاقية "أوسلو" والسلطة الفلسطينية في رام الله، ويضع مشروعات ترامب لتوسيع الاتفاقيّات الإبراهيميّة في مهبّ العواصف التي لا يمكن منعها.
كل ذلك لا يردع إسرائيل من أن تمضي قُدُمًا في خططها.
لا حضور عربي مؤثر ولا كلمة موحّدة قادرة على إيقاف ما أسماها عمرو موسى، الأمين العام الأسبق للجامعة العربية، في نقاشٍ بيننا "الحقبة السوداء".
لا تكفي البيانات والإدانات وحدها بمواجهة الجرّافات والطائرات.
إنه يضع مشروع التهجير القسري في التنفيذ العملي من الضفّة الغربيّة إلى الأردن ومن غزّة إلى سيناء.
ما مصير ثلاثة ملايين مواطن فلسطيني في الضفّة الغربيّة؟!
بتقدير الكاتب الأميركي اليهودي توماس فريدمان، في مقالٍ نشرته مؤخّرًا الـ"نيويورك تايمز"، فإنّ "إسرائيل في طريقها إلى أن تصبح دولةً ثنائية القوميّة، أو دولة تحرم شريحةً كبيرةً من سكانها حقّهم الديموقراطي في التصويت".
المعضلة الإسرائيليّة ليست في حق التصويت، هذا مستبعد تمامًا وإلا فإنّ الفلسطينيين العرب سوف تكون لهم كلمة الحسم بالنظر إلى أنهم يمثلون أغلبية من يعيشون الآن في فلسطين التاريخية.
المعضلة الحقيقية في نفي طبيعة القضية الفلسطينية كقضية تحرّر وطني بالمقام الأول لشعب يرزح تحت الاحتلال، وفي سياسات التمييز العنصري والتطهير العرقي، التي تجعل من إسرائيل دولة مارقة ضد القانون الدولي الإنساني.
انفجار كبير يصعب توقّع ما بعده من حروبٍ دينية وانهيارات نُظُم وفوضى سلاح واغتيالات سياسيّة
ومن المفارقات أنّ الرئيس الأميركي المنتخب تعهّد في حملته الانتخابية بألّا يبدأ حروبًا وبأنه سوف يُنهي كل الحروب، لكنه سوف يجد نفسه في قلب النيران المشتعلة وتداعيّاتها المحتملة.
فما الذي يمنع إسرائيل من الإقدام على هدم المسجد الأقصى إذا ما نجحت في فرض سيادتها الكاملة على الضفة الغربية؟
إنه الانفجار الكبير، الذي يصعب توقّع ما بعده من حروبٍ دينية وانهيارات نُظُم وفوضى سلاح واغتيالات سياسيّة.
دأبت الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة منذ عام 1967 على إنشاء المستوطنات وتوسيعها حتى التهمت نصف مساحة الضفّة الغربيّة وتبقى إعلان السيادة عليها وحسم الوجود الفلسطيني فوقها.
نحن أمام لحظة فارقة، الصدام فيها وجودي... أن نكون أو ألّا نكون.
(خاص "عروبة 22")