وجهات نظر

"توازن الضعف".. مصر نموذجًا

سؤال مزمن يلحّ بإصرار في رأس كلّ من يتأمّل الحال البائسة لأمتنا، هذا السؤال يصوغ نفسه على النحو التالي: لماذا تبدو أغلب مجتمعاتنا العربية، رغم ما تُظهره في أحيان كثيرة من تململ، غير قادرة على النهوض والتقدّم ومغادرة منطقة التخلّف الشامل بكل تجلّياته على الصُعد كافة من الاقتصاد والاجتماع حتى السياسة والثقافة؟.. وكيف فشلت الانتفاضات الشعبية التي انفجرت في العقد الأخير في إحداث خرق بجدار هذا البؤس العتيد؟

لا إجابة عندي إلا أنّ عمق وتجذّر أعراض ما يمكن أن يُسمّى معادلة "توازن الضعف" التي استوطنت مجتماعتنا العربية على اختلافها وتنوعها من حيث مستوى النضج والانسجام في بنيتها وتشكيلة نسيجها البشري.. هو السبب غالبًا.

معادلة كئيبة تتجلى آياتها مفضوحة في الحالة المصرية

هذه المعادلة النادرة أوّل طرفيها، مجتمع أنهكه البؤس والفساد والإفقار والتخلّف، والثاني سلطة غشوم ضعضعها فسادها واستبدادها وفشلها، فأما معنى هذا "التعادل" فيتجلّى عندما نرى سلطة فقدت كل مؤهلات بقائها وصارت عاريةً من أية قوة أو شرعية، ولكنها بسبب ما أحدثته من خراب مجتمعي باقية في رقدتها على صدور الناس بالقوة الخام ووسائل القمع فقط.

ربما هذه المعادلة الكئيبة تتجلّى آياتها واضحة مفضوحة على نحو مثير في الحالة المصرية بالذات، إذ حاول المصريون، بغريزة حب البقاء فحسب، البحث عن طريق للخروج من زنزانة ضعف مجتمعهم وضعف السلطة التي عذّبتهم من دون أن يكون لأيّ من الطرفين القوة الكافية للعصف بالآخر وكسر إرادته نهائيًا، فبقي كل منهما قادرًا على المقاومة والصمود في خندقه ولكن بغير قدرة على تحقيق نصر حاسم على خصمه.

"الإنفجار العشوائي" قد يبقي الأبواب مشرّعة أمام كل الاحتمالات

من المثير حقًا أنّ المصريين استعملوا هذا الاكتشاف الغريزي الخطير - من غريزة حب البقاء - بضع مرات في العقود الخمس الأخيرة، منها مرّتان في أقلّ من ثلاث سنوات. أولاهما عندما أسقطوا في انتفاضة يناير ٢٠١١ العارمة نظام حسني مبارك الذي طال عصره واستطال جدًا صانعًا حالًا من الركود والجمود السياسي غير المسبوق مصحوبًا بمآسي وآيات فساد وفشل اقتصادي وتردي اجتماعي فاحش القسوة، فلمّا انتهت هذه الانتفاضة العظيمة إلى ما بدا أنه فشل ذريع في فتح باب للسير على طريق التقدّم الذي طال انتظاره، إذ صعدت إلى سدة الحكم جماعة ظلامية وطائفية ومنعدمة الكفاءة "الإخوان المسلمين" استفزت الدولة والمجتمع معًا، عاد المصريون بسرعة لاستخدام كتلتهم الجماهيرية الهائلة وخرجوا للشوارع في انتفاضة ثانية في ٣٠ يونيو ٢٠١٣، فاقت انتفاضة يناير السابقة في حجم الكتلة الشعبية، ومع ذلك يبدو الآن أنّ الانتفاضتين لم تسفرا عن شئ إلا المزيد من سوء الحال والأحوال، إذ تحوّل الفشل إلى خراب وتدمير شاملين لم يوفّرا مجالًا أو وجهًا من أوجه الحياة، ومن ثم غرق المجتمع في أتون محرقة بؤس وظلم وقمع هائلة حتى بدا الأمر هذه اللحظة، وكأنّ المصريين تعطّلت قدرتهم -ولو مؤقتًا- على الاستعانة بالحراك الشعبي المقاوم الذي انخرطوا فيه ببسالة خلال سنوات سابقة، وظهر المجتمع غارقًا بالقسر في هوة يأس عميقة وسحيقة.

إذن فقد عاد المصريون بسرعة لسجن توازن الضعفاء، فسلطتهم الآن غاية في الضعف بعدما حققت بسرعة أعلى معدلات فشل شهدتها البلاد في كلّ تاريخها المعاصر مصحوبًا بقدر غير مسبوق من القمع وإشاعة الخوف، أما المجتمع فقد بدا منهك القوى ويائسًا، ومن ثم عاجزًا عن العودة لاستخدام سلاح الانتفاض الراقي، تاركًا أقوى الظنون أنه ربما لم يعد أمامه سوى خيار الإنفجار العشوائي الذي قد يبقي كل الأبواب مشرّعة أمام كل الاحتمالات، بما فيها احتمال فتح أبواب جحيم جهنم. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن