لم تصمد السياسة الأميركية كثيراً مع تغيّر قواعد اللعبة في المنطقة خاصة الصورة الحديثة التي ظهرت بها السعودية كدولة أصبحت ذات تأثير أكبر في المسار الإقليمي والدولي من خلال رؤيتها التنموية وسياستها التي نقلت المملكة إلى دولة لديها فرص متعددة للتعامل مع القوى الكبرى في العالم..
الحقيقة التاريخية تقول إنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مثلت منطقة الخليج العربي أولوية قصوى ومهمة ودائمة عند رسم سياسات الأمن القومي الأميركي، وقد تمحور القلق الأميركي حول سلامة إمدادات النفط وخاصة خلال ما يسمى بالحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي آنذاك، ولكن الحقيقة أن أميركا مهما تغيّر الزمن تركز بشكل أساسي على احتواء ومواجهة أي تهديدات جيوستراتيجية يمكنها أن تصنع النفوذ لقوة عالمية في هذه المنطقة المعقدة التي اعتادت على تداول الأسباب الأميركية حول وجودها في المنطقة، وللحق والتاريخ كانت هناك فترات عصيبة تطلبت وجود القوات الأميركية لحماية المنطقة من فوضى سياسية يمكنها أن تدمر المنطقة وتؤثر على إمدادات مصادر الطاقة العالمية.
السيناريوهات الأميركية كانت تركز على الوجود واعتماد سياسيات ذات أولوية أمنية من خلال الأهداف المعلنة القائمة على الحفاظ على تدفق النفط دون انقطاع بجانب التركيز على منع أي قوة أجنبية وإقليمية معادية من السيطرة والنفوذ في المنطقة، وهذا ما يفسر القلق الأميركي من تغيّر في معادلة الأمن في الخليج عبر أطراف دولية صاعدة أو تقليدية، وعملت أميركا على تطوير الكثير من التحالفات والعلاقات الأمنية مع الدول المطلة على الخليج التي تربطها تحالفات استراتيجية مع واشنطن، اليوم يأتي السؤال الأهم الذي يدور حول ظهور مؤشرات كبرى بأن أميركا تعود بسرعة إلى نقض حديثها عن رغبتها في مغادرة المنطقة من خلال إرسالها الجنود إلى الأسطول الخامس والعودة إلى إحياء تحالف أمني دولي نشأ في بداية هذا القرن.
معطيات الوجود الأميركي تعود من جديد وفق بوابة الأمن وتثبت أن السياسة الأميركية تعود بفلسفتها تجاه الخليج والتي تدور أساساً حول النفط وأمن إسرائيل والتهديدات من الحركات الإسلامية وبعض الأنظمة في المنطقة، ولكن هذا المسار لا يكفي لتفسير عدم الوضوح في التعامل مع المنطقة وخاصة العلاقات الأميركية الإيرانية، حيث ظلت هذه العلاقة دائماً وأبداً في منطقة رمادية تتأرجح بين الصداقة والعداء، وقد ساهمت هذه الفلسفة خاصة بعد توقيع أميركا وإيران اتفاقيات حول برنامجها النووي، في تضاؤل حيوية أميركا التي بدأت بالظهور منذ بداية القرن الحادي والعشرين.
لقد مررت أميركا لدول المنطقة فكرة الاعتماد على النفس وتطوير منظومات دفاعية واستراتيجيات سياسية للعيش بأمان، وقد وجدت هذه الفكرة الكثير من الأسئلة المهمة حول حقيقة الانسحاب الأميركي من المنطقة وجديته والذي تبناه بشكل كبير الحزبان الجمهوري بقيادة ترمب والديموقراطي بقيادة بايدن، لذلك فإن الإدارة الأميركية ستواجه عملية استحضار عميقة لمعاكسة فكرة الرئيس أوباما حول المنطقة ومشكلاتها غير القابلة للحلول بحسب رؤيته.
لم تصمد السياسة الأميركية كثيراً مع تغيّر قواعد اللعبة (...) أميركا العائدة إلى المنطقة لا بد وأنها تدرك أنها أمام اختبار دولي مهم يصعب من خلاله تمرير الفكرة الأميركية التقليدية حول أسباب وجودها في المنطقة التي تحتكر إنتاج النفط في العالم وأصبحت تتعامل مع مشترين أكثر استهلاكاً وحاجة للنفط، وهذه الدول في المنطقة ما زالت بحاجة إلى عائدات النفط، ولكن في الوقت ذاته لديها الخطط طويلة المدى لتقليل الاعتماد على هذه السلعة، ولذلك لن تقبل هذه الدول أي هزات غير محسوبة أو غير متزنة في أسعار النفط سواء الارتفاع أو الانخفاض الحاد، لأن ذلك سيكون مصدر قلق كبير للعالم كله لأن الزيادة أو الانخفاض المفاجئ في أسعار النفط يمكنه أن يؤثر بشكل خطير على المستهلكين والمنتجين وسياساتهم.
مع تغيّر الخارطة وقواعدها في منطقة الخليج (...) فإنّ أميركا تناقش بعمق الكيفية السياسية والاستراتيجية التي سوف تدفع بها ثمن تراخي مستوى الثقة بينها وبين المنطقة التي تلقت التصريحات الأميركية بقلق كبير منذ أكثر من عقدين من الزمن.
("الرياض")