لأسباب تاريخية كان سؤال الهُوية أكثر إلحاحًا في عموم العالم العربي من سؤال المواطنة، فقد كان انهيار السلطنة العثمانية بمنزلة صدمة حلّت على رعاياها، وما زاد من هذه الصدمة الانتدابات والاحتلالات الغربية، التي حلّت مكان سابقتها العثمانية، ووجد سكان مناطق السلطنة أنفسهم أمام ضرورة تعريف الذات لملء الفراغ التاريخي/ الحضاري، وصياغة صورتهم أمام أنفسهم أولاً، وأمام الآخرين ثانياً، وليس من قبيل المصادفة أن يحتل سؤال الهُوية قائمة اهتمام المفكرين في العالم العربي، خصوصاً في مصر وبلاد الشام، هذا إذا لم نعتبر أن سؤال الهوية ربما كان مرجعية كلّ الأسئلة التي طرحوها، منذ نهايات القرن التاسع عشر.
لم يدخل في حسابات مفكري عصر النهضة العربي أن سؤال الهوية يعاني بطبيعته البنيوية عقبة معرفية هي من صلب المفهوم ذاته، فإذا كان تعريف الهوية يخضع لما هو عليه من صفات ومحدّدات في لحظة تاريخية معينة فإن التبدلات التاريخية، بشقّيها الاقتصادي والاجتماعي، تُحدث تغييرات على تلك الصفات والمحدّدات، ما يجعل الهوية نفسها قابلة للتغيّر مع مرور الزمن، كما أن أزمة الهوية الحاصلة آنذاك تحت ضغط خارجي دفعت مفكري النهضة إلى تقديم إجابات فيها الكثير من اليقينية من جهة، وفيها الكثير من الخطية، أي عدم أخذ تعقيدات الهوية أثناء تقديم رؤيتهم للهوية.
لعب العامل السياسي دوراً مهماً في صراع الهويات في العالم العربي، وهو أمر يبدو طبيعياً في سياقاته التاريخية، إذ إن الخطوط الفاصلة بين الهوية وإمكانية تحويلها إلى أيديولوجيا هي خطوط ضعيفة، وربما نظرية أكثر منها واقعية، إذ تحتمل الهوية بطبيعتها أن تكون فاعلة إيديولوجياً، كما أن الدول -مطلق الدول- تقوم في جانب أساسي منها على العامل الهوياتي، فلا وجود لدولة بلا هوية، ومن هنا كان صراع الهويات في العالم العربي في جزء كبير منه أيديولوجياً وسياسياً، هو صراع على الدولة، وعلى السلطة السياسية.
في مرحلة النضال ضد الانتدابات والاحتلالات في العالم العربي حدث تداخل في الهويات الكبرى، الوطنية والقومية والدينية، فقد استمدّت حركات التحرّر مشروعية نضالها من هذه الهويات، ووفّرت لها إمكانية حشد الجماهير داخل الحدود الوطنية وخارجها، وقد ساعد المنطق الهوياتي في دعم قضايا التحرّر الوطني بوصفه القضية الأساسية، لكن في الوقت ذاته، أوجد العديد من الالتباسات الفكرية والشعورية، وأيضاً القانونية، خصوصاً فيما يتعلق بالتعاطي السياسي مع اتفاقية سايكس بيكو، التي رسمت دولياً حدود الدول في المنطقة.
في المنطق الهوياتي القومي، بمجمل تلاوينه، اعتبرت الأقطار العربية والدولة الوطنية مجرّد تفصيل تاريخي مؤقّت إلى حين إنجاز الدولة القومية العربية، وقد بُنيت مقاربات بأكملها على حتمية هذا الانتقال، مستدعية تجارب الماضي من جهة، وتكييفها مع الضرورات المرحلية، كما استُدعيت من جهة ثانية تجارب قومية أوروبية، لتكوين تصوّر ينقل الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل.
بطبيعة الحال، كان الصراع الهوياتي المؤسس على هويتين تاريخيتين وازنتين -القومية العربية والدين الإسلامي- عائقاً أمام نمو تيار كان موجوداً بصورة جينية، هو التيار الليبرالي، على الرغم من انخراط رموزه في النضال ضد الانتدابات والاحتلالات، لكنه لم يتمكّن من تطوير خطّ فكري سياسي، كي يدخل بصفته طرفاً فاعلاً ووازناً في الصراع السياسي على المستويين الوطني أو القومي. ولأسباب عديدة، بقيت الليبرالية الفكرية على ضفاف الفكر العربي الرسمي، كما شُنّت ضدها معارك كثيرة، في محاولات لتأكيد الهويات التاريخية أمام ما اعتُبر فكراً أوروبياً دخيلاً على الثقافة العربية والإسلامية.
في ضوء صراع الهويات، تمّ تجاهل مسألة المواطنة، التي تقع في صلب الفكر الليبرالي، وكأن المسألتين تقعان على طرفي نقيض، وهو أمر غير صحيح معرفياً، فهما مسألتان متكاملتان من خلال الدولة، وإذا كانت الهوية ضرورة لمرجعية الدولة والشعب فإن المواطنة هي المقياس الدستوري والقانوني والفعلي الذي يحدّد مكانة الفرد بالنسبة للدولة، وإذا كان مفهوم المواطنة قد استقّر على تحديد أربعة مبادئ أساسية لها، وهي الحرية والمسؤولية والمساواة والتشاركية، فإن قياس تحقّق هذه المبادئ في الدول العربية يظهر وفق كل المؤشرات التي تصدرها مؤسسات أممية ودولية مرموقة بأنها منقوصة بدرجة كبيرة، وأحياناً شبه غائبة.
("الخليج") الإماراتية