مع بدايات الألفية الجديدة برز أنّ ديناميات الواقع الأفريقي كانت تتفاعل بالمخالفة لتقدير الموقف التاريخي الذي ركنت إليه باريس، ورغم أنّ هذه الديناميات كانت واضحة لكلّ عين تراقب عن كثب التطورات في أفريقيا خصوصًا الديمغرافية، ولكن العيون الفرنسية تغافلت، ولم تستطع أن تلحظ التطورات، وحين لاحظتها أنتجت خطابات ولم تطوّر آليات تخاطب الواقع الجديد وذلك على نسق خطابات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ عام ٢٠١٨ للشباب الأفريقي.
المطلب الاستقلالي للشعوب الأفريقية يملك ديناميات لا تتوقف حتى يحقّق هدفه
السؤال الذي يطلّ برأسه هنا أين أخطأت فرنسا في أفريقيا، وهل من سبيل لإصلاح الخطأ أو تداركه حتى تستطيع الحفاظ على متطلّباتها وخصوصًا من الطاقة؟
الخطأ الاستراتيجي لفرنسا أنها قد تجاهلت تمامًا فكرة المطلب الاستقلالي للشعوب الأفريقية واعتبرته متغيّرًا قابلًا للإحتواء، وليس مطلبًا مرتبطًا بحياة ومستقبل شعوب ترغب في التقدّم والحياة الآدمية، من هنا فهو يملك ديناميات لا تتوقف حتى يحقّق هدفه.
هذا التجاهل دفع فرنسا إلى أن تربط اقتصادات هذه الشعوب بالاقتصاد الفرنسي عبر فرنك أفريقي، وتشترط أن تودع الدول الأفريقية جزءًا من مداخليها القومية في البنك المركزي الفرنسي، وذلك اعتبارًا من بدء الاستقلال أي ستينات القرن الماضي لمعظم الدول الأفريقية.
ومع بدء اكتشاف تضخّم الموارد الأفريقية بشكل عام، بدأت الشركات الفرنسية في استغلال هذه الموارد لصالحها دون تقديم عوائد عادلة لتلك الموارد واستخدمت في ذلك أمرين، الأول هو ربط النخب الأفريقية بها عبر اللغة والتعليم والرشى المالية للنخب الحاكمة، الأمر الثاني هو منح مساعدات في الموازنات لهذه الدول ترتبط بدرجة تحالفها مع النخب المرتشية، ورضاها عن خدمتهم لأهدافها.
هذه الديناميات خلقت مفارقة لافتة؛ وهي أنّ القارة الغنية بالموارد، شعوبها يعانون جوعًا وفقرًا، ودولها تعاني هشاشةً وضعفًا حيث لم تساند باريس هذه الدول على الصعيد الفني واللوجستي ولكنها تعالت على نخبها بمزاعم أنهم فاسدون في عملية هي مَن صنعتها، ولا أنسى نقاشًا مع أحد المبعوثين الفرنسيين لأفريقيا، حول مدى عدم صلاحية النخب الأفريقية للاستقامة الأخلاقية، وبطبيعة الحال أنتج ضعف الدول، وجوع الأفارقة معادلة إنعدام الأمن وعدم الاستقرار السياسي والإجتماعي في أفريقيا خصوصًا في دول الساحل.
لم تكتفِ باريس بذلك ولكنها أجهضت محاولات للتحالف الأفريقي الإقليمي لمواجهة الإرهاب على النحو الذي مارسته مع مصر عام ٢٠١٥، وأفشلت محاولة القاهرة لبناء هذا التحالف على الرغم من الإقبال الأفريقي على المحاولة المصرية التي حضر فاعليتها الوحيدة ٢٦ وزير دفاع أفريقي في شرم الشيخ.
باريس مجرّد نموذج لأداء استعماري يبدو أنّ قدرته على الاستمرار بأدواته نفسها قد انتهت
عانت فرنسا أيضًا ومعها الغرب كله في تقديري من حالة إنكشاف أمام عيون الشباب الأفريقي حين ساندت عمليات انتقال للسلطة غير دستورية، وذلك لأنّ النخب التي مارست هذا الانتقال موالية لها، ولعلّ حالتَي كلّ من تشاد وروندا خير عنوان لهذا الانكشاف.
مع ثورة الانترنت وقدرة البشر على الوصول للمعلومات أولًا، والتواصل مع بعضهم البعض ثانيًا، وممارسة عملية الإخبار بالمجريات الواقعية على الأرض ثالثًا، بدأت الأدوات الفرنسية التقليدية في التعطّل عن العمل لخدمة الاستراتيجيات الفرنسية التاريخية، ومع بزوغ فاعلية الكتلة الشرقية أي الصين وروسيا في أفريقيا خلال العقد الأخير انتهت قدرة الأدوات الفرنسية تمامًا على خدمة مصالحها وباتت تواجه تحديًا وجوديًا هو مؤثر على مستوى حياة ورفاه الشعب الفرنسي خصوصًا في قطاع الطاقة.
باريس مجرد نموذج لأداء استعماري يبدو أنّ قدرته على الاستمرار بأدواته نفسها قد انتهت، حيث يجب الانتباه أنّ وعي الشباب الأفريقي اليوم يحاول أن يدّشن معادلة جديدة قائمة على الشراكات الندّية، أي ضرورة الحصول على عوائد عادلة للموارد، وضرورة التحوّل للصناعات التحويلية لزيادة القيم الاقتصادية للموارد، وربما تُعدّ مطالبات النيجر وزيمبابوي قبل عام لواشنطن مؤشرًا لهذا الاتجاه، حيث طالبتا بأن يكون الحصول على مدخلات بطاريات اللثيوم، كمصدر طاقة للسيارات الكهربائية، متطلبًا إقامة مصانع على أراضيهما وليس تصدير هذه المواد على شكلها الخام.
يبدو أنّ على فرنسا اليوم أن تكون فاعلًا في مسار روما، لا أن تتعالى عليه كما فعلت بالقمة الأولى لهذا المسار في إيطاليا التي أدركت متأخرةً أنّ على الغرب أن يتغيّر لأنّ الأفارقة عازمون على التغيير فعلًا.
(خاص "عروبة 22")