على مدى مئات الآلاف من السّنين، عاش هذا الإنسان العاقل في مجتمعات صيد وجمع ثمار، بما هي بيئات ماديّة صلبة، محكومة بقيدَيْ الزمن والمكان، ضمن مجموعات صغيرة تُقدّر بحوالى 150 شخصًا، بناءً على فرضيّة "دنبار" لدماغ السوشيال.
ملاحظات مختبريّة دقيقة أظهرت أنّ الرّوابط الدماغيّة بدأت فعلًا بالتغيّر لدى جيل الشبكات والذّكاء الاصطناعي
لكن مع ظهور الإنترنت والشبكات الاجتماعيّة، وصولًا إلى تقنيّات الذّكاء الاصطناعي، تعدّدت وتكثّرت أوجه هذه البيئة (الميتافيرس، الواقع المعزّز، البيئة الافتراضيّة والرقميّة والإلكترونيّة...)، وأصبح لهذا الكائن البشري الذي عاش أسلافه ضمن جماعات أوليّة محدودة، علاقات وروابط تتجاوز بكثير حدود البيئات الماديّة التي يحيى فيها، إذ أصبح بإمكانه التواصل وربط علاقات مع أيّ شخصٍ آخر في أيّ مكان من العالم، وفي أيّ زمن يختاره، ومن الناحية الفعليّة أصبح مقدار التفاعل والتواصل الممكن للبشر غير محدود.
وعليه فإنسان عصر الشبكات المعزّزة بالذّكاء الاصطناعي وخلافًا لأسلافه، الذين عاشوا ضمن بيئات وجماعات فيزيائيّة محدودة، يدخل اليوم إلى شكلٍ جديد تمامًا من المجتمع، وهو خطوة ثوريّة كبرى مقارنة بالعصور التي سبقته (عصر اكتشاف النّار والزّراعة والصناعة وعصر المعلومات)، بفضل أشكال الاتصال الشاملة والدائمة التي طوّرها، وصولًا إلى عصر "التّواصل الفائق" و"الواقع المعزّز" بالمعلومات التي تديرها العقول الآليّة على مدار السّاعة، وقد أحدث ذلك ثورةً في الإنسانيّة، وفي الطفرة الجينيّة للإنسان العاقل الحديث Homo sapiens.
لقد أظهر بعض الأبحاث أنّ نوعًا جديدًا من البشر بدأ يتطوّر (فين وفريكين)، وعلى الرّغم من أنّ الهيكل الجسدي الأساسي للإنسان هو نفسه، إلا أنّ ملاحظات مختبريّة دقيقة أظهرت أنّ الرّوابط الدماغيّة التي تتشكّل بعد الولادة بدأت فعلًا بالتغيّر، لدى أفراد الجنس البشري الحالي، من جيل الشبكات والذّكاء الاصطناعي، هؤلاء الذين وُلدوا وترعرعوا مع التّواصل الشبكي المستمرّ، والوسائط البصريّة غير المحدّدة بزمان أو مكان ثابت وحقيقي، كما أظهرت ملاحظات أوليّة مستخلصة من دراساتٍ مُقارِنة لأطفال وبالغين من مختلف الفئات العمريّة، مع فحص مهام متنوّعة طُلب منهم القيام بها، أنّ هؤلاء - البشر من جيل الشبكيّين - يمكنهم القيام بمهامّ متعدّدة وفي الوقت ذاته بشكل مثيرٍ للإعجاب وعلى درجةٍ عالية من الدقّة مقارنةً بغيرهم، على عكس معظم البالغين (جاد وكينيدي)، كما تمّ تأكيد النتائج من خلال دراسات رصد واستطلاعات رأي للأطفال في سن المدرسة.
مخاوف من تقلّص مرونة الدّماغ وقدرته على التحليل وحلّ المشكلات المستجدّة
استنتج العلماء كذلك في سياق هذه الدّراسة، أنّ بعض أفراد العيّنة استطاعوا تطوير المزيد من الوظائف المرتبطة بالفصّ الجبهي من الدماغ Frontal Lobe، الذي يرتبط بالوظائف قصيرة المدى، مقارنة بـ'الهيبوكامبوس' Hippocampus الذي يرتبط بالحفظ والذّاكرة. نتيجة منطقيّة لازدياد استخدام الشبكات الاجتماعيّة، والتعامل مع تقنيّات الذّكاء الاصطناعي، إذ أصبح بإمكان الإنسان العاقل من جيل الشبكيّين القيام بعدّة مهام ضمن عمليّات ومهام الذّاكرة قصيرة المدى، وذلك على حساب الذّاكرة طويلة المدى، وقد أشار إلى ذلك "بول طومسون"، أستاذ الأعصاب والطب النّفسي في مدرسة الطب بجامعة UCLA (جامعة كاليفورنيا، لوس أنجليس) قائلًا إنّ "اليونانيين القدماء كانوا يمتلكون ذاكرةً رائعة بسبب التكلفة الكبيرة في كتابة أي شيء على الورق. كان الجنرالات يعرفون أسماء جميع جنودهم، نحن ببساطة لا نحتاج إلى تلك الذّاكرة على الإطلاق" (غراي وطومسون).
ومع أنّ التّعامل مع الشبكات والاعتماد المتزايد على تطبيقات الذّكاء الاصطناعي قلّل من مهامّ ووظائف الدّماغ كالذّاكرة قصيرة المدى، وستزداد تأثيرات ذلك في المستقبل، إلا أنّ مخاطر مُحدقة لا يكفّ يُنبّه إليها علماء الأعصاب والباحثون، خاصة المخاوف من تقلّص مرونة الدّماغ وقدرته على التحليل وحلّ المشكلات المستجدّة، والقدرة على تعلّم واستخدام اللّغات، وإجراء العمليّات الحسابيّة والتحليل المنطقي المعقّد.
(خاص "عروبة 22")