ابتهج أنصار الحقوق الفلسطينيّة بصدور أمر الاعتقال فيما اعتبر آخرون أنه في حكم العدم نظرًا لافتقار العدالة الدوليّة إلى ذراعٍ تنفيذيّة، وبالتالي فلا أثر متوقعًا لأمر الاعتقال بخاصّة إذا تذكّرنا السوابق، فقد كان هناك أمر باعتقال الرّئيس السّوداني السّابق عمر حسن البشير لم يُنَفَّذ حتى بعد أن أُطيح به، وهناك أمر اعتقال ما زال ساريًا بحق الرّئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يتوقّع أحد تنفيذه وهكذا.. ومع ذلك فليس صحيحًا أن يتصوّر أحد أنّ صدور أمر الاعتقال ليس له جدوى تُذكر، على أن نضع المردود الممكن لهكذا قرار في سياقه الصّحيح من دون تهويل أو تهوين.
لا نملك في مواجهة هذا الاستعمار الشرس أن نُسقط أي ورقة بأيدينا مهما بدت محدودة التّأثير
لكي نحدّد الأثر المتوقّع للقرار، وبعيدًا عن تخيّل أنّ نتنياهو يمكن أن يُقبض عليه ويُحاكَم، وتصدر بحقّه عقوبة تليق بجرائمه، يجب أن نتذكر أنّنا نخوض مع إسرائيل صراعًا معقّدًا وممتدًّا يجب عدم الاستخفاف فيه بأي أسلوب من أساليب النّضال أو أي أداة من أدواته. ففي حروب التحرّر الوطني يوجد الكفاح المسلّح الذي استطاع انتزاع الاستقلال بجدارة كما في الحالة الجزائريّة في خمسينيّات القرن الماضي وستينيّاته، وكذلك حالة جنوب اليمن في مواجهة الاحتلال البريطاني في ستينيّاته، وهناك أيضًا الكفاح المدني الذي وصل في حالة الهند إلى الكفاح السلمي المطلق ونجح في انتزاع الاستقلال، وتنوّعت أساليبه في نضال شعب جنوب أفريقيا ضد النّظام العنصري بعد تجربة الكفاح المسلّح.
وهناك كذلك النّضال الديبلوماسي في المحافل الدولية، والعمل الإعلامي الدّاعم لقضيّة التحرر، وهنا نتذكّر بكل التّقدير الدّور الذي لعبته إذاعة "صوت العرب" من مصر في ذروة المدّ القومي في خمسينيّات القرن الماضي وستينيّاته، والتي لعبت دورًا حقيقيًّا في الحشد الجماهيري المساند للعمل المقاوم. وأذكر أنّ سفير الجزائر في القاهرة في كلمته بمناسبة الاحتفال باليوبيل الذّهبي للإذاعة في الجامعة العربيّة، ذكر أنّ قادة جبهة التّحرير لاحظوا زيادةً محسوسةً في أعداد المتطوّعين، فاهتمّوا بسؤالهم عن السّبب، وكانت الإجابة دائمًا "صوت العرب".
وفي هذا الإطار، يمكن القول إنّ قرار اعتقال نتنياهو يمكن أن يرفع من معنويّات المناضلين من أجل حرّيتهم، وقد يشارك في تقويض الرّوح المعنويّة لقوّات إسرائيل وشعبها، ويوفّر مزيدًا من الحجج والقوّة لمساندي النّضال ضد الاستعمار الصهيوني في فلسطين، وقد يستخفّ الكثيرون بكل ما سبق، وهم معذورون في ذلك، لكنّنا يجب أن ندرك أنّنا لا نملك في مواجهة هذا الاستعمار الشرس أن نُسقط أي ورقة بأيدينا مهما بدت محدودة التّأثير.
إذا كان نظام الجنائيّة الدوليّة لا يسمح بالمحاكمات الغيابيّة فلننظِّمها نحن
ولو كان قرار الجنائيّة الدوليّة منعدم التأثير لما التاث نتنياهو بل إسرائيل كلها حكومةً ومعارضةً بالقرار، لأنه يشارك في تقويض الأساس الأخلاقي المزعوم للكيان الصهيوني الذي تصل الوقاحة بقياداته السياسيّة والعسكريّة إلى حد وصف الجيش الإسرائيلي بأنه الجيش الأكثر أخلاقيّة في العالم، وامتدت هذه اللوثة بطبيعة الحال إلى الساحة الأميركية، خصوصًا وقد أبدت دول أوروبيّة عديدة التزامها بالقرار. وعلينا مسؤوليّة خاصّة في زيادة هذه اللوثة، وهي مسؤوليّة تدعوني إلى تكرار ما سبق لي قوله في مقالة سابقة إنّنا إذا كنّا نعتقد بحقّ أنّ المواقف الرسميّة العربيّة ليست على المستوى الواجب لمواجهة هذا التغوّل الإسرائيلي، فإنه يمكن توجيه النقد عينه لمواقف المجتمع المدني العربي وما يصدر عنه من جهدٍ فني وإعلامي داعم للنّضال ضد إسرائيل مقارَنًا للأسف بدوائر غربيّة تعمل في سياق حكومات شديدة الانحياز لإسرائيل.
وقد طالبت أكثر من مرّة بأن تنظّم المؤسّسات المدنيّة العربيّة ذات الصلة محاكمةً شعبيةً لنتنياهو تلتزم بالأصول القانونيّة، وتُعقد في أحد البلدان الأوروبية، ولتكن إيرلندا التي يتجاوز موقفها من الصّراع مواقف دول عربيّة، بل إنّه من الممكن التّفكير في الولايات المتحدة ذاتها كمكانٍ لهذه المحاكمة في ظل التحوّلات التي حدثت في الرأي العام الأميركي، ولنتخيّل التّأثير الذي يمكن أن تُحدثَه هذه المحاكمة في دعم التوجّهات المناصرة للحقّ الفلسطيني، وإذا كان نظام الجنائيّة الدوليّة لا يسمح بالمحاكمات الغيابيّة فلننظِّمها نحن، بخاصّة وقد وفّرت لنا المحكمة قرار الاتهام.
(خاص "عروبة 22")