اقتصاد ومال

جيوسياسة البحار والمحيطات (2/2)

توقّفنا في مقالةٍ سابقة عند بعض مضامين أحد أعداد مجلة "ديبلوماسي" (Diplomatie) الفرنسيّة، وكان مخصّصًا للخوض في موضوع جيوسياسة البحر والمحيطات (الحديث عن عدد نوفمبر/تشرين الثاني 2024)، شارك فيه عدّة خبراء في مجال الدّراسات الجيوسياسيّة والجيوستراتيجيّة المتعلّقة بالبحار. وتُعتبر المقالات المنشورة في هذا العدد، رصْدًا لمختلف التحوّلات الجيوسياسية، ونتطرّق في هذه المقالة إلى مضامين أخرى لا تقلّ أهميّة.

جيوسياسة البحار والمحيطات (2/2)

تَظْهر أهميّة البحار والمحيطات في السياق الدّولي المعاصر، في الانتباه إلى حجم الثّروات البحريّة، بالإضافة إلى اكتشاف البترول والغاز في عدّة مناطق بحريّة، وهناك سباقٌ حاد بين الدّول الكبرى والشركات العالميّة حول اكتشاف المعادن النادرة والاستراتيجيّة. وتُعتبر دول أميركا الجنوبيّة (بيرو، إكوادور، تشيلي، غواتيمالا، نيكاراغوا، سلفادور)، من الدّول الأولى التي طالبت ومنذ 1947، بحقّ الاستغلال المكثّف لمجالها البحري؛ بسبب وفرة الأسماك.

هناك اهتمامٌ اليوم أكثر بالثّروات المعدنيّة بسبب التقدّم الحاصل في تكنولوجيا التنقيب، بحيث يُلاحظ وجود تكالُبٍ عالمي، على الخيرات المعدنيّة في البحر الأحمر، الذي توجد فيه معادن كثيرة، مثل الزّنك، والرصاص، والفضّة، والحديد، والماغنيسيوم، والفوسفور، والنيكل وغير ذلك. وتسعى السّعودية ومصر والسّودان لاستغلال منطقة اقتصاديّة موحّدة. وفي انتظار امتلاك تكنولوجيا متقدّمة، فإنّ استغلال المعادن الموجودة في أعماق البحر، ستُمكّن دول البحر الأحمر من تحقيق قفزةٍ نوعيّة في مواردها الماليّة.

التحدّيات الماليّة والتّقنيّة تفرض على الدّول غير القويّة أن ترضخ لشروط الشّركات العالميّة لاستغلال مواردها البحريّة المعدنيّة

هناك صراعٌ أيضًا بين عدّة دول على الثّروة السّمكية أو المعدنيّة، وهي صراعات إمّا خفيفة، مثل الصّراع بين كندا وأميركا، أو صراعات حادّة في خليج المكسيك ومنطقة الكاريبي وبحر الصّين. وتواجه الدّول عدّة تحدّيات لاستغلال الموارد البحريّة المهمّة، وهي تحدّيات قانونيّة وجيوسياسيّة وتكنولوجيّة.

وتُعتبر السفينة الكنديّة "Nautilus New Era" التي تملكها الشركة الكنديّة "Nautiluls Minerals"، أوّل سفينة في العالم منذ 2011، لها القدرة التّقنيّة للتّنقيب عن المعادن في أعماق البحار، والتي حاولت استغلال معادن الذّهب والنّحاس، في منطقة غينيا الجديدة؛ لكنّها واجهت تحدّيات ماليّة ضخمة وأفلست سنة 2019. وهذه التحدّيات الماليّة والتّقنيّة ستفرض على الدّول غير القويّة، أن تلجأ إلى الشّركات العالميّة الضّخمة، وترضخ لشروطها المُجحفة، إذا أرادت استغلال مواردها البحريّة المعدنيّة.

وأشارت المجلّة كذلك إلى القوّة البحريّة، حيث هناك حاجة إلى نظامٍ بحري عالمي مستقرّ وقائم على قواعد صلبة. وتعتبر سلاسل الإمداد ركيزةً مهمّةً جدًّا للاقتصاد الغربي أساسًا، لذلك هناك سعيٌ لحمايتها. كما تُعتبر سلاسل الإمداد مهمّةً بالنّسبة للاقتصاد الصّيني والهندي والإندونيسي وباقي الدّول الصّاعدة. ويمثّل النّقل البحري حوالى 90% من المبادلات التجاريّة العالميّة، لذلك فإنّ ضمان استمرار النّقل البحري وسلامته، هو هاجسٌ عالميٌ، إذ يتعيّن تجنُّب الحوادث غير المقصودة وكذلك المقصودة. وواضح أنّ هذه الحوادث تؤثّر في سلاسل الإمداد، ويدفع ثمن ذلك المستهلك إذ ترتفع الأسعار وتنعدم بعض الموارد، وخصوصًا المواد الغذائيّة. ومن الملاحظ أنّ مخاطر انقطاع سلاسل الإمداد هي في ارتفاع، بسبب السياق الجيوسياسي العالمي الحالي.

وعلى الرّغم من التقدّم الحاصل في مجال المراقبة البحريّة، وتطوير آليّات الرّصد والمتابعة عبر الأقمار الصناعيّة واستعمال الذّكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا الفضاء والأمن المعلوماتي، فإنّ كل هذه التكنولوجيّات يمكن الوصول إليها في الأسواق السّوداء، وتهديد الأمن البحري العالمي من طرف منظّمات إرهابيّة أو منظّمات الجريمة المنظّمة أو غير ذلك.

ولهذا فإنّ مواجهة هذه التحدّيات، يَفترض التفكير في قوّة بحريّة مشتركة ومتضامنة، تدافع عن "القِيَم الليبيرالية"، من أجل ضمان استقرار النّظام البحري العالمي. وبالطبع هذا الطرح تحيزٌ غربيٌ محض، إذ من المفترض التّفكير في نظام قانوني عادل لجميع الدّول، وانخراط المنتظم الدّولي في حماية الأمن البحري العالمي، لتحقيق الرفاهيّة للبشريّة جمعاء؛ مع العلم أنّ هناك اتفاقيّات حول حقّ الشّعوب في التنمية والحقّ في السّلام.

وأشارت المجلّة كذلك إلى الأهميّة الاستراتيجيّة للبحر، لأنّه موردٌ بديلٌ للشحّ في مجال المياه العذبة. لذلك تُعتبر تكنولوجيا تحلية مياه البحر، أو إزالة الملوحة أو الإعذاب، عاملًا مهمًّا في تعزيز قوّة الدّول. وتشير الإحصائيات لسنة 2023، إلى وجود حوالى عشرين ألف مصنع لتحلية مياه البحر في العالم، وتُنتج حوالى 115 مليون مترٍ مكعّبٍ من المياه العذبة.

ومن الملاحظ، أنّ تكنولوجيا تحلية المياه، أصبحت موضوعًا جيوسياسيًّا بامتياز، لأنّه مرتبط ببقاء بعض الدّول المهدّدة بالتغيّرات المناخيّة والانفجار السكّاني، والتصحّر، والحاجة إلى موارد مائيّة كافية للنّمو الاقتصادي وضمان السيادة الغذائيّة والأمن الغذائي.

تقع دول الخليج في أهمّ منطقة في العالم، حيث تستخدم تكنولوجيا تحلية المياه، وتوجد فيها حوالى 60% من قدرات التحلية في العالم، عبر حوالى 400 محطّة وإنتاج حوالى 40% من الماء العذب في العالم.

وتُعتبر المملكة العربيّة السّعودية رائدةً عالميًّا في تحلية مياه البحر، إذ تُنتج حوالى 70% من المياه العذبة؛ وكذلك دولة الإمارات العربية المتّحدة التي تحتلّ المرتبة الثانية عالميًّا بعد السّعودية، إذ توفّر تكنولوجيا تحلية المياه وتلبّي حوالى 40% من حاجاتها من المياه العذبة.

هناك توجسٌ في الشّرق الأوسط من إمكانيّة وقوع تلوّث كيميائي كاسح وهذا يفترض تأمين الموارد المائيّة عبر التّخزين

تتفاوت دول الخليج في حاجتها إلى تحلية مياه البحر، لكن عمومًا فإنّها تسجّل أعلى المعدّلات العالميّة في هذا النطاق. وهناك اهتمامٌ بموضوع التخزين الاستراتيجي للمياه العذبة، حيث تسعى قطر منذ خمس عشرة سنة، إلى تحقيق مخزونٍ يصل إلى حوالى 10 ملايين متر مكعّب من المياه العذبة؛ وذلك ببناء ثلاث محطّات كبرى للتّخزين الاستراتيجي.

ويُعتبر التّخزين الاستراتيجي للمياه العذبة، أمرًا في غاية الأهميّة، إنّه مسألة مندرجة في الأمن القومي المعاصر لعدّة بلدان. وهناك توجسٌ في منطقة الشّرق الأوسط، من مشهد مستقبلي محتمل قامت به بعض المراكز البحثيّة، حول إمكانيّة وقوع تلوّث كيميائي كاسح، بسبب حدث عادي أو قصف بالصواريخ؛ وهذا يفترض تأمين الموارد المائيّة عبر التّخزين.

يواجه الأمن الإسرائيلي بدوره هذا التحدّي، إذ تُنتج إسرائيل حوالى 70% من الماء العذب من البحر، وتحتاج إلى تأمين مصانع التحلية والتّخزين، إذ تتوفّر على مصنعٍ يُنتج حوالى 625 ألف متر مكعّب من المياه.

وبالإضافة إلى هذا التحدّي الأمني، هناك مشكلة التغيّرات المُناخيّة التي تُلزم بعض الدول في الانخراط في سياسة تحلية مياه البحر، ومنها إسبانيا التي أصبحت في المرتبة الأولى أوروبيًّا والخامسة عالميًّا، بل تقوم بإنتاج حوالى مليون متر مكعّب يوميًّا، إذ تملك 700 محطّة، ومن ضمنها 70 محطّة بحريّة.

وتسعى الصين بدورها إلى بلوغ إنتاج 3 ملايين متر مكعّب في اليوم، في أفق 2030. ومن المحتمل أن تحتاج منطقة البحر المتوسط، إلى ما بين 30 أو 40 مليون متر مكعّب يوميًّا، في أفق 2030. فدولة مالطا أصبحت تحتاج 100% من المياه العذبة. وأصبحت تحلية مياه البحر، ضمن الأهداف الاستراتيجيّة للمغرب التي تُنتج حوالى 192 مليون متر مكعّب سنويًّا؛ وتتوفر على أكبر محطّة في أفريقيا، وفي سنة 2026 ستكون هذه المحطّة قادرة على انتاج حوالى 580 ألف متر مكعّب يوميًّا، وفي سنة 2028 ستصل إلى حوالى 822 ألف متر مكعّب يوميًا.

يتعيّن على العالم العربي التعاون وتخصيص موارد للتّطوير والبحث في مجال تكنولوجيا تحلية المياه

وتلاحظ المجلّة أنّ الاستثمار في مجال تحلية مياه البحر قد ناهز 42.6 مليار دولار، من ضمنها 29 مليار دولار في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أي حوالى 68% من الاستثمار الإجمالي العالمي. وهناك توقّع لارتفاع الاستثمار في هذه التكنولوجيا في منطقة آسيا ــ الباسيفيك، بحوالى 17.1% من الميزانية المخصّصة لذلك، لكن يُحذّر الخبراء من التأثير السلبي لتكنولوجيا تحلية مياه البحر في البيئة.

إجمالًا، فإنّ البحار والمحيطات في الوقت الذي تشكّل فيه فرصًا للاقتصاد العالمي، فإنها تُعتبر كذلك مصدرًا راهنيًّا ومستقبليًّا للنّزاعات والصراع الجيوسياسي الحادّ. ويتعيّن على العالم العربي التفكير في صياغة خطة مشتركة لمواجهة تحدّي مشكلة الشحّ في المياه العذبة والتعاون في تمويل مشاريع تحلية مياه البحر وتخصيص موارد للتّطوير والبحث في مجال تكنولوجيا تحلية المياه.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن