بأجوائها ونتائجها كانت نكبة عام (١٩٤٨) صدمة هائلة في فلسطين وأنحاء العالم العربي.
"لا تكتب التاريخ شعرًا، فالسلاح هو المؤرّخ".
بأبسط وأوضح المعاني وأكثرها نفاذًا إلى الضمير الإنساني صاغ "محمود درويش" تجربة أسرته في ديوان: "لماذا تركت الحصان وحيدًا؟".
لم يكن بوسع الأسرة المشرّدة أن تجمع حاجياتها، وتركت خلفها حصانًا ودجاجات في بيت تصوّرت أنها سوف تعود إليه.
نزَحَت مع من نزحوا من قرية "البروة" بالجليل إلى مخيّم لاجئين في لبنان قبل أن تتسلّل بعد نحو عام عائدة إلى الجليل، حيث عاشت في قرية أخرى بالقرب من بيتها القديم، الذي لم تعد إليه أبدًا.
ظاهرة شعراء الأرض المحتلة لم تنشأ من فراغ ولا احتكرها شاعر واحد مهما بلغت قيمته
في كل بيت فلسطيني تجربة مماثلة غير أنّ موهبة الشعر أضفت على روايته ملحميتها وخلودها.
بعد هزيمة (١٩٦٧) بدت ظاهرة شعراء الأرض المحتلة أمام الرأي العام العربي بارقة أمل في لحظة ألم عميق وشبه يأس.
لم تنشأ من فراغ، ولا احتكرها شاعر واحد مهما بلغت قيمته.
اعتلت منصّة الغضب الفلسطيني أسماء أخرى لشعراء من حجم "راشد حسين" و"فدوى طوقان" و"معين بسيسو" و"توفيق زياد".
من موقعه في بيروت كان الروائي والمناضل الفلسطيني "غسان كنفاني" أوّل من أشار إلى شعراء الأرض المحتلة، الذين بزغوا بعد هزيمة "يونيو". ومن موقعه في القاهرة كان الناقد الأدبي "رجاء النقاش" أوّل من كتب عن ظاهرتهم بتوسّع، لفت الانتباه إليها ودعا لاحتضانها.
عندما يجري الحديث عن ظاهرة شعراء الأرض المحتلة، فإنّ اسمَي "محمود درويش" و"سميح القاسم" يتصدّران الذاكرة، كأنهما توأم ملتصق، أو "شطرا برتقالة"، كما عنْوَنا مساجلات شعرية بينهما أقرب إلى مناكفات المحبين، كأنهما تجربة واحدة وشاهد واحد على العذاب الفلسطيني حتى لو اختلفت المواقع.
القضية الفلسطينية تحتاج إلى إلهام الأدب لتعرض عدالتها أمام الضمير الإنساني
"درويش" الذي توقّع انزياحًا للاحتلال: "عابرون في كلام عابر" هو نفسه "سميح" الذي كتب: "كل سماء فوقكم جهنم.. وكل أرض تحتكم جهنم".
"درويش" رحل في مثل هذه الأيام قبل خمسة عشر عامًا و"سميح" تبعه في رحلة الغياب.
فراغ شاعر فلسطين الأكبر "محمود درويش" لم يملأه أحد، هذه مأساة إضافية لقضية تحتاج إلى إلهام الأدب لتعرض عدالتها أمام الضمير الإنساني.
تجربته أخذت زخمها من إطلالته على العالم، التي انعكست على بنية قصائده وروح التجديد فيها.
حاول بأقصى طاقته إثبات أنّ شاعريته لا تلخّصها أناشيد الحماسة.
طوّر قصائده من الغنائية إلى الرمزية، ومن صخب التعبئة إلى عمق الفلسفة، مستفيدًا من إطلالته على العالم واتّساع قراءاته وحواراته.
أضفى بقصائده على الكفاح المسلّح شرعيته الأخلاقية.
كانت قضيته، مع أبناء جيله من شعراء الأرض المحتلة، أن يقولوا للعالم: نحن هنا ولنا قضية، اغتُصبت أرضنا وجرت جرائم وحشية ضد الإنسانية، ونحن نستحق الحياة.
كتب بأسلوبه النثري الرفيع، الذي يضاهي شعره رفعةً وتأثيرًا، وثيقة الاستقلال الفلسطيني التي أُعلنت في الجزائر ثمانينيات القرن الماضي، وأثارت جدلًا وخلافًا عميقين قبل أن يقدم "ياسر عرفات" على توقيع اتفاقية "أوسلو".
شأن أيّ مبدع حقيقي فإنه لم يخذل شعره. هادن في موقف سياسي أو آخر، لكنه كان صارمًا في شعره.
"لم تقاتل لأنك تخشى الشهادة، لكن عرشك نعشك
فاحمل النعش لكي تحفظ العرش، يا ملك الانتظار
إنّ هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار".
لا أدري كيف استقبل "عرفات" تلك القصيدة الأقرب إلى مرثية للقضية الفلسطينية، ولا كيف قرأ الأبيات التي قال فيها ابنه الروحي الأقرب إلى قلبه أنّ عرشه هو نعشه؟!
عندما قال الزعيم الفلسطيني بعد الوصول إليه بالسمّ: "بل شهيدًا.. شهيدًا.. شهيدًا"، ربما كانت في مخيّلته هذه الأبيات.
لعلّه أراد قرب النهاية أن يرد: "لست هذا الرجل".
كان "درويش" مأخوذًا في تجربته الإنسانية بـ"الأم الشاهدة".. "لا تعتذر إلا لأمك".
وكان مأخوذًا في تجربته الشعرية بـ"الأم الملهمة" "ليفهمها الحمام ويحفظ الذكرى".
"وأعشق عمري لأني إذ مت،
أخجل من دمع أمي".
كان مسكونًا بشيء ما غامض يقول له إنه سوف يموت قبل أمه.
"فأنا لا أريد
من بلادي التي سقطت من زجاج القطار
غير منديل أمي وأسباب موت جديدة".
في قصيدة "خذني معك"، التي كتبها "القاسم" بعد رحيل توأمه الشعري:
"تسأل صارخة دون صوت وتسأل أين أخوك؟".
"تزلزلني أمّنا بالسؤال؟ فماذا أقول لها؟".
لم يكن ما أنشده "القاسم" تخيلًا شعريًا بقدر ما كان تجربة حقيقية عليها شهود وتسجيلات.
في أوضاع جديدة وأزمان مختلفة يطرح السؤال نفسه: من يتحدّث الآن باسم الشعب الفلسطيني المعذّب والمقاوم، الذي يواجه وحده الآلة العسكرية الإسرائيلية وسيناريوهات التشريد الجديدة والفصل العنصري والتقتيل اليومي، لكنه لا يحني رأسه ولا يرفع راية بيضاء؟
قوة المقاومة لا تغني عن إلهام الأدب.
هذا هو معنى "محمود درويش"، الذي لا يصحّ أن يغيب.
(خاص "عروبة 22")