بصمات

السياق العربي.. وضيق "التوجّه النّقدي"!

عادةً ما تُقاس تقدّميّة المجتمعات الديموقراطيّة، بمعنى ما، بفساحة التعبير عن الرأي ومدى قبوله في الفّضاء العمومي، فيُنتج نوعًا من الحوار ما بين البنية التحتيّة والفوقيّة من دون عقدة التّصادم، لأنّ الغاية تخضع لعقلنة سياسيّة أوّلًا قبل خضوعها لتجاذباتٍ سياسيّة، خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بالفّكر النقدي الموجّه نحو السلطة السياسيّة، لكن غياب هذه الفسحة معناه خلق معارك تتغذّى على التوجّهات السلطويّة والإيديولوجيّة والدينيّة الضيّقة.

السياق العربي.. وضيق

خلال منتصف القرن العشرين عاشت أوروبا على وقع الأنظمة الكليانيّة والشموليّة، وتعاظم قوّتها أمام تواضع الفكر السياسي النّقدي في الفضاء العمومي، وهو الأمر الذي اشتغل عليه الفيلسوف الألماني راينهارت كوسيليك من خلال كتابه "النّقد والأزمة" في النّسخة الألمانيّة أو "مملكة النّقد" في الترجمة الفرنسيّة، مما أفرز نِفاقًا نقديًّا في ثنايا الفكر السياسي، وقد كان سببًا في نشوء أزمة تاريخيّة لم تتنبّأ بها الأزمنة الحديثة.

الأنظمة لم تستطع التّطبيع مع الوعي النّقدي في المجال العامّ لهذا ظلّت تُخضعه للمراقبة والقيود

والحال أنّ هذا النّفاق النّقدي الذي ساهم بشكلٍ ما، في كسر المسار السياسي الغربي، يُذكِّرنا بالانحباس التاريخي الذي تعيش على وقعه الأوطان العربيّة، هل يتحمّل فيه الفكر النّقدي السياسي دورًا أو جانبًا من المسؤولية؟

تختلف درجات ممارسة التّفكير النّقدي، في كل من المجالين الخاصّ والعامّ في المجتمعات العربيّة، وقد يصل الاختلاف حدّ التّناقض، ويتحكّم في هذا التفاوت بالدّرجة الأولى طبيعة النّظام السياسي لجلّ الدول العربيّة، لأنّ هذه الأنظمة لم تستطع التّطبيع مع الوعي النّقدي في المجال العامّ، لهذا ظلّت تُخضع هذا المجال للمراقبة والقيود المضمَرة والمعلَنة، الأمر الذي أنتج تضخيمًا أو نوعًا من التنفيس غير المُعلن في ممارسة النّقد في المجال الخاصّ على حساب المجال العامّ، بخاصّة أنّ عملية النّقد هنا تستحضر الرّقابة الممارَسة على الفكر السياسي النّقدي، وبالتالي ترسم حدودًا وسقفًا مسْبقًا مخافة وقوع الاصطدام، إذ يوازي في ظلّ هذا السياق توجيه النّقد، على حدٍ سواء، اتجاه الأنظمة السياسيّة أو التوجّهات الدينيّة في صورتها المعتدلة أو المتطرّفة، توجّهًا معياريًّا سلبيًّا في نسخته المتشدّدة أو المتطرّفة، بحيث لا يقبل بالحوار بقدر ما يواجه بالاضطهاد والنّفي.

بالنّتيجة، يتمّ خندقة النّقد الذي لا يتوافق والمقدّسات السلطويّة والإيديولوجيّة في خانة العدوّ أو المرفوض، وبالتّالي يخلق مجالًا لممارسة النّفاق النّقدي في المجال العامّ، والحديث عن نفاقٍ يمتدّ من النّخبة إلى أدنى درجات المجتمع، مما يجعل الأنظمة السياسيّة العربيّة تتبنّى موقع المراقب الضّابط لحركيّة المسار النقدي.

يحضر هذا النّفاق النّقدي على الأقل، من خلال ثلاثة مستويات:

- نبدأ بالفكر النّقدي السياسي لدى النّخبة المثقّفة، والذي يرسم بوْنًا شاسعًا بين فساحة الفكر السياسي وضيق السّقف النّقدي لدى النّخبة، التي تحاول أن تبقى وفيّة للحسّ النّقدي من دون تجاوز الخطوط الحمراء أو مواجهة الإطار العامّ المحدّد لطبيعة النّظام السياسي الذي ينتمي إليه المثقّف العربي. فنصير أمام نقدٍ مسيّج ومقولب ومراقب ذاتيًّا، ومُمَنهج أكاديميًّا، قبل أن يكون استجابةً لسقفٍ سياسيٍ متّفق عليه بشكل ضمني، لهذا تميل هذه النّخبة في الكتابات النّقديّة في الفكر السياسي إلى نوعٍ من الاستغراق في تسطير الأفق المأمول من دون القدرة على انتقاد الوضع القائم والرّاهن بشكلٍ صريح. وقد تكون هنا عمليّة الاستغراق أو ممارسة نوع من النّفاق النّقدي تستدمج عُدّة مفهوميّة ضبابيّة وملتبسة ومجرّدة بشكل كثيف، لا تفي بغرض خلق مأسسة حقيقيّة للفكر النّقدي السياسي.

- المستوى الثاني خاصٌ بممارسة النّقد وفق "أجندات" إيديولوجيّة حيث يوَجّه النّقد وفق سهام محدّدة انطلاقًا من تقييم معياري لهذه التوجّهات، من دون إمكانيّة ممارسة النّقد داخل هذه التوجّهات، فتصير آليّة النقد هنا آليّة حربيّة/صِداميّة بامتياز، من دون أن تلامس الحسّ النّقدي بشكل مقبول وفاعل، كما أنّ هذه التيّارات خصوصًا الدينيّة ذات التوجّه السياسي، تمارس نقدًا تجاه سلوكيّات وحالات المجتمع، لكنها تتفادى بشكل ما توجيه سهام النّقد للسلطة السياسيّة وممارساتها، فتُخندق وجودها ضمن مسارٍ نفعي انتهازي لا أفق وطني نهضوي.

- المستوى الثالث خاصٌ بالتوجّه العامّ في المجتمعات العربيّة التي انخرطت، بشكل ما، ووِفق أسباب سياسيّة وتاريخيّة، في إطار محدّد لممارسة التّفكير النّقدي، بغضّ النّظر عن طبيعة ومستوى هذا النّقد، لقد صار لها مجال خاصّ تفرغ فيه شحناتها النّقدية، هذا المجال الذي يرنو إلى تفريغ الشّحنات النقديّة إزّاء الممارسة السياسيّة، وكذلك الوضع العامّ للدّولة الوطنيّة وتوجّهاتها القوميّة والدوليّة، لكنّه نقد يظلّ مؤطّرًا بهاجس المواجهة السياسيّة، لهذا بقي حبيس المجال الخاصّ من دون أن يلِج إلى أرضية المجال العامّ، وهو توجهٌ يختلف عن مسار المستويَيْن السابقَيْن، من خلال العُدّة المفهوميّة والرؤية التي يختلط ضمنها الدّيني/السياسي/القومي/الثّقافي.

التخلّف في ترسيخ الوعي النّقدي في الفضاء العمومي يُعطّل ديناميّة الحركة الديموقراطيّة في بنيات المجتمع

ما يمكننا التّأكيد عليه، هو أنّ النّقد هو الآليّة المحرّكة للتاريخ السياسي المسيّج بأفق ديموقراطي، فممارسة قيود على التّفكير النّقدي هي قيود على الحركيّة التاريخيّة الخاصّة بهذه المجتمعات، لأنّ تعطيل التّفكير أو التخلّف في ترسيخ الوعي النّقدي في الفضاء العمومي، يُعطّل بالضرورة ديناميّة الحركة الديموقراطيّة في مختلف بنيات المجتمع، مما يفرض ضرورة وأهميّة التّصالح مع التّفكير النّقدي بما هو ضرورة تعكس فعاليّة تحرّرية من الضيق الإيديولوجي والسلطوي نحو فساحة المأمول النّهضوي الوطني العربي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن