لا شك أنّ قضيّة التعليم في مصر تشغل بال الكثير من السياسيّين والخبراء من المنطق عينه الذي تحدّث به الدّكتور علي الدّين هلال، في "السيمنار"، مع انتشار الجامعات الخاصّة والأهليّة وتضاعُف أعدادِها بنسبٍ تفوق نموّ أي قطاع اقتصادي آخر، سواء كان مالًا عامًّا أو خاصًّا.
وعلى الرّغم من احتفاظ الدّستور المصري بعد ثورتي يناير/كانون الثاني ويونيو/حزيران بمجانيّة التّعليم كحقّ دستوري، بل وتحديد نسبةٍ من النّاتج القومي للإنفاق على التّعليم كحد أدنى، على الرّغم من هذا وذاك، إلّا أنّ الواقع يضرب بكل هذه القيم الدّستورية في منافسة شرسة وغير عادلة بين من لا يملك مصروفات التّعليم الجامعي الخاصّ وبين من يملك هذه الفاتورة الضّخمة.
بدأ قانون إنشاء الجامعات الخاصّة في عام 1992 وسط جدلٍ عنيف، إلّا أنّ هذه الجامعات لم تبدأ عملها إلا في عام 1996 بأربع جامعات، وسرعان ما زادت الجامعات الخاصّة لتصل إلى الضّعف بعد عشرة أعوام، وأخيرًا وصل عددها إلى 32 جامعة خاصّة في هذا العام.
وبعد اتّهامات مجتمعيّة للجامعات الخاصّة أو بالأحرى ملّاكيها بالتّركيز على الأرباح، بدأت تجربة الجامعات الأهليّة في عام 2002 بالجامعة الفرنسيّة، لتتوالى الجامعات الأهليّة التي يُفترض أنّها لا تهدف إلى الرّبح، وتضَخّم عدد الجامعات الأهليّة منذ عام 2022 حين قرّرت الدولة أن تقيم عددًا من الجامعات الحكوميّة جامعات أهليّة ليتضاعف العدد بنسبة نموّ 250% في عامين.
وتقدّم الجامعات الأهليّة ومعظم الكليّات الخاصّة مناهج حديثة تواكب احتياجات سوق العمل وتضمن وظائف لخريجيها أو بالأحرى تضمن مستقبلهم، بينما حُرِم طلاب الجامعات الحكوميّة من هذا المستقبل.
ويبدي الخبير في مجال التّعليم، الدكتور كمال مغيث، اعتراضه على تحوّل الجامعات الخاصّة إلى "بيزنس" مرتبط بوضع السّوق والتضخّم والعملة الأجنبيّة، موضحًا لـ"عروبة 22" أنّ التّعامل معها أصبح شبيهًا بالتّعامل "مع الذّهب"، بخاصّة أنّ هذه الجامعات بدأت في رفع أسعارها مع كل فصل دراسي وليس مع كل سنة دراسيّة جديدة فقط.
وأشار مغيث إلى أنه "لا يمكن القول إنّ هناك منافسة عادلة بين الجامعات الخاصّة والحكوميّة، فالجامعات الخاصّة تقدّم خدمةً لسوق العمل، ولكن في المقابل تجني من ورائها تكلفة ماديّة باهظة تجبر الطالب على أن يصبح أسيرًا للاختصاصات التقليديّة بالجامعات الحكوميّة والتي لا تواكب احتياجات سوق العمل، فيكتفي الطّالب بالحصول على الشهادة العلميّة من خلالها فقط مقابل مصروفات أقلّ بكثير".
من جانبه، شدد النائب سامي هاشم، رئيس لجنة التعليم والبحث العلمي في البرلمان المصري، على أنّ أهمّية التعليم مكفولة للجميع والحقّ في التعليم هو حقّ لكل مواطن مصري وبالتالي فإن انتشار الجامعات الخاصّة في مصر من المفترض أنّه نابع من فكرة تقديم خدمة بجودة أعلى، وفي الوقت عينه تُقدّم مخرجات مختلفة لسوق العمل بناءً على الاختصاصات المختلفة في هذه الجامعات وهو الأمر الذي يتطلّب تكلفة مختلفة مقارنةً بالجامعات الحكوميّة.
وأوضح هاشم أنّ الدولة بدأت في العمل على تحقيق العدالة الاجتماعيّة في سوق العمل من خلال الاتجاه إلى إنشاء الجامعات الأهليّة والتي تُعتبر حلًّا وسطيًّا بين الجامعات الحكوميّة ذات المصروفات المخفّضة والجامعات الخاصّة المتنوّعة الاختصاصات ذات الأسعار المرتفعة، وبالتالي تسعى هذه الجامعات إلى تحقيق التوازن بين نوعَيْ الجامعات مشترطًا لنجاح التجربة أن يتمّ فرض رقابة ماليّة ورقابة على العمليّة التعليميّة بشكل مشدّد للقضاء على الاستغلال.
بينما يرى الخبير التربوي، الدكتور عبد الله معطي، أنّ انتشار الجامعات الخاصّة له حسنة وحيدة فقط وهي تنوّع الاختصاصات ومواكبة سوق العمل، ولكنّ بتكلفة ماديّة مرتفعة، إذ تحوّلت إلى "بورصة" تتنافس فيها الجامعات الخاصّة في كل فصل دراسي وفي كل سنة دراسيّة جديدة لرفع الأسعار بصورة مُبالَغ فيها.
وأوضح معطي أنّ برنامج الحماية الاجتماعيّة داخل الجامعات الخاصّة المسؤولة عن تقديم المنح للطلّاب غير المقتدرين به عوار شديد، إذ يُلزم الطلّاب بتحقيق التفوّق بنسبة معيّنة وبالتالي يتمّ التغافل عن فئة الطلّاب المتوسّطين الرّاغبين في تحقيق نجاح منطقي يؤهّلهم للالتحاق بسوق العمل، معتبرًا أنّ "النظام الذي تقوم عليه الجامعات الخاصّة غير عادل ويحتاج إلى مراجعة للّوائح"، ولافتًا إلى أنّ وجود الجامعات الأهليّة يمكن أن يقضي على استغلال الجامعات الخاصّة، ولكن على المدى البعيد في خلال الـ10 سنوات أو الـ20 سنة المقبلة، وفي التّوقيت الحالي يجب فرض رقابة لنتمكّن من تحقيق 40% على الأقلّ من العدالة الاجتماعيّة اللّازمة.
وفي سياق متصل، يؤكد وزير المالية المصرية الأسبق، الدكتور سمير رضوان، لـ"عروبة 22" أنّ "التعليم مثل أي ظاهرة اجتماعيّة مؤثّرة يخضع لقوانين المجتمع والتي من ضمنها الاستثمار"، مشيرًا إلى أنّ "الاستثمار في التّعليم في مصر موجود بصورة ظاهريّة لكن على أرض الواقع تحوّل الأمر إلى "بيزنس"، بينما الدّولة مُمَثّلةً بالحكومة ووزارة الإسكان لديها مرونة كبيرة في منح تراخيص الأراضي لإنشاء المدارس والجامعات".
وطالب رضوان بضرورة أن يكون الاستثمار في حقل التعليم "حقيقيًّا ومتوازنًا" فيحصل رجل الأعمال على الأرض والترخيص، ولكن في الوقت عينه تُلزمه الدّولة بأن يكون لديه "كوتة" محدّدة يخدم بها فئات اجتماعيّة أقلّ لخلق التّوازن داخل المجتمع وبالتالي تمتلك كل فئات المجتمع بكافّة مستوياتها فرصًا للتأهل إلى سوق العمل.
ويتّفق الخبير الاقتصادي، هاني توفيق، مع ضرورة تشديد وزارة التّعليم العالي ووزارة الإسكان على قواعد منح التراخيص للمشروعات التعليميّة من أجل الحصول على ضمانات تُلزم رجال الأعمال والمستثمرين بتحقيق التّوازن، بين العدالة الاجتماعيّة والربح المادّي.
(خاص "عروبة 22")