فلسطين... القضية والبوصلة

في دحض "البروباغندا" الصهيونية.. هل ترك الفلسطينيون أرضهم بإرادتهم؟!

تدَّعِي الحركة الصّهيونيّة وعصابتها في المحافِل الدوليّة أنّ العرب هم مَن هربوا مِن البلاد طواعيّة، واستمر الصّهاينة يبثُّون هذه المعلومات في الدّاخل والخارج إلى درجةٍ أنّ كثيرين من أصدقاء "إسرائيل" في الغرب صدَّقوها. وهدفَت الدّعاية الصّهيونيّة إلى المحافظة على صورة "إسرائيل" مجتمعًا "عادلًا وأخلاقيًّا" لا تشوبه شائبة، بحيث أدركت أنّ الدّعاية العاطفيّة لها اليوم حُكم السيف، وأنّ أبواب الأرشيفات ستبقى موصدة، ومن ثَمَّ سيكون من العسير الوصول إلى جذور مشكلة اللّاجئين الفلسطينيّين. وظلّ الوضع كذلك حتى نفضت الأرشيفات غبارَها مؤخّرًا، وكشفت للرأي العام الحقيقة التاريخيّة الموجِعة.

في دحض

للباحث اليهودي إسرائيل شاحاك (ت 2001) دراسة مهمّة عن "الترانسفير" في العقيدة الصّهيونيّة، وفيها حديث مفصّل عن طردِ العرب مما يسمّونه (أرض إسرائيل)، في ضوء النّصوص اليهوديّة المقدّسة المؤثّرة في مدارك قطاعات كبرى من النّاس في المجتمع الصّهيوني. وقد أشار شاحاك في كتابه هذا إلى أنّ قومه يخطّطون ليس لطرد العرب المسلمين الفلسطينيّين فحسب، بل لطرد العرب النّصارى أيضًا.

وفي مذكّرات للقادة الصّهاينة، كمذكّرات إسحاق رابين (ت 1995)، نجد شهادات دامغة على مسؤوليّة "إسرائيل" في تهجير الفلسطينيّين من وطنهم بالقوّة، كما نجدها على لسان العديد من اليهود الذين شاركوا في الأحداث. يعترف إسحاق رابين في مذكّراته بأنّه بعد احتلال اللّد والرّملة في يونيو/حزيران 1948، رُحِّل أكثر من 500.000 فلسطيني تحت إمرته وبأوامر من ديفيد بن غوريون، وذلك في إطار خطة (داليت) التي أعدّها يغائيل يادين (ت 1984)، وقد بُدِئ في تنفيذها في أبريل/نيسان 1948، بحيث استهدفت توسيع رقعة الدّولة الصّهيونيّة وطرد الفلسطينيّين.

التّطهير العرقي كان هدفًا رئيسًا من أهداف الوحدات العسكريّة الصهيونيّة بقيادة ديفيد بن غوريون

كما أكّد ليو هايمن - أحد ضبّاط الهاغاناه - أنّ عصابته "جاءت بسيارات الجيب تحمل مكبّرات للصّوت وراحوا يبثّون تسجيلات لأصوات الرّعب تضمّنت صرخات ونحيب وأنين النّسوة العرب، بالإضافة إلى دوي صفّارات الإنذار، ورنين أجراس عربات الإطفاء يقطعها صوت مناشدًا باللّغة العربية: "أيها المؤمنون أنقذوا أرواحكم، أهربوا لتنجوا بحياتكم".

ووصف الجنرال البريطاني هيو ستوكويل (ت 1986) وضع العرب، فقال: "كان الخوف من اليهود تنامى عند العرب إلى درجةٍ كبيرة، فقد أدرك العرب مدى قوّة اليهود (ووحشيّتهم). وكانوا يخشون أن يَحرُق اليهود بيوتهم وهم في داخلها ويقتلوا أولادهم وزوجاتهم. وأعتقد أنّهم شعروا بأنّ الوقت قد حان كي يرحلوا بأسرع وقت ممكن".

ولا ننسى شهادة الكونت فولك برنادوت - الوسيط الدّولي للأمم المتّحدة - في تقريره الذي قدّمه إلى الأمين العام لهيئة الأمم المتّحدة قبل اغتياله بأيام: "إنّ نزوح عرب فلسطين جاء نتيجة الرّعب الذي خلقه القتال الدائر في مجتمعاتهم، والشائعات المتعلّقة بأعمال الإرهاب الحقيقيّة أو المزعومة أو بفعل الطّرد. إنّ جميع السكّان العرب تقريبًا هربوا أو طُردوا من المنطقة الواقعة تحت الاحتلال اليهودي". كما أكد برنادوت في تقاريره أنّه على "إسرائيل" أن تتحمّل مسؤوليّة إضافيّة، وهي تمكين اللّاجئين من ممارسة حقّ العودة إلى وطنِهم. وبعد معرفة مضمون التقرير اغتال الصهاينة - عصابة "شتيرن" - برنادوت في القدس يوم 17 سبتمبر/أيلول 1948.

وأصدر الكاتب والأكاديمي اليهودي إيلان بابيه كتاب (التّطهير العرقي في فلسطين)، الذي يكشف الجرائم المروّعة التي قام بها الصهاينة لتهجير الفلسطينيّين وتصفيتهم، ويتّهم الكيان الصّهيوني بالتّطهير العرقي وبارتكاب جرائم ضد الإنسانيّة إبّان حرب عام 1948 وصولًا إلى يومنا هذا. ويصوّر إيلان بابيه كيف أن التّطهير العرقي لم يكن ظرفًا أمْلَتْه الحرب، بل كان متعمّدًا وكان هدفًا رئيسًا من أهداف الوحدات العسكريّة الصهيونيّة بقيادة ديفيد بن غوريون، الذي يُطلق عليه بابيه "مهندس التّطهير العرقي".

الوثائق والسجلّات تفنّد الدّعاية

بناءً على وثائق الأمم المتّحدة، ووثائق أميركية وبريطانية، ظهرت إلى العلن من الأرشيف "الإسرائيلي" المدني خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، أكّدت هذه الوثائق أنّ عددًا كبيرًا من المجازر ارتكبتها القوات اليهوديّة ضدّ العرب في مجرى الحرب "الإسرائيليّة" العربيّة الأولى لسنة 1948. وتتدرّج هذه المجازر حجمًا من إطلاق النّار على حفنة من المدنيين أو عدّة مجموعات منهم اختيروا عشوائيًّا واصطفّوا إلى حائط قرية بعد احتلالها (كما حصل، على سبيل المثال، في قرى مجد الكروم وبعنا ودير الأسد وعيلبون وجش وصالحة وصفصف وسعسع) خلال عملية حيرام التي أدّت إلى ذبح نحو مائتين وخمسين مدنيًّا ومعتقلًا أثناء إطلاق نار في مدينة اللّد الواقعة جنوبي شرقي تل أبيب، عصر الثاني عشر من تمّوز سنة 1948. وعبر الأعوام، كشف الإفراج عن وثائق جديدة، ومقابلات صحافيّة جرت مع شهود ومشاركين، مجازر "إسرائيليّة" ارتُكبت بحقّ المدنيّين وأسرى الحرب العرب في الحروب اللاحقة في سنوات 1956 و1967 و1973 و1982.

الفِرية التي روّجت لها الصهيونيّة فيما يتعلّق ببيع الفلسطينيّين لأراضيهم كانت بهدف تغطية مجازرها الوحشيّة 

كما أيّد المؤرّخ مايكل بالومبو صحّة الرّواية الفلسطينيّة لأحداث 1948، استنادًا إلى وثائق الأمم المتّحدة ومقابلات مع لاجئين ومعنيّين فلسطينيّين، في كتابه القيّم "النّكبة الفلسطينيّة" الذي نشر سنة 1987.

وأثبتت عدة دّراسات محايدة أنّ نحو 90% من القرى الفلسطينيّة نزحت بسبب استخدام العنف والقسر والقوّة الجبريّة ما بين طرد أو هجوم عسكري يهودي أو ممارسة حرب نفسيّة عدائيّة ضدّ السكان، أمّا الخروج الاختياري فهو ظاهري وليس حقيقيًّا لأن الخروج الاختياري نجَم عما كان يحدث من مجازر يهوديّة في مختلف القرى مما أجبر أصحاب تلك القرى على الخروج قبل التعرّض لمجازر مماثلة.

بعد الرّحيل

مما سبق يتّضح لنا أنّ الفِرية التي روّجت لها الصهيونيّة بشكل غير مسبوق فيما يتعلّق ببيع الفلسطينيّين لأراضيهم قد كانت بهدف تغطية جرائمها ومجازرها الوحشيّة التي ارتكبتها أثناء الحرب التي شنّتها قوات الاحتلال "الإسرائيلي" لطرد الفلسطينيّين من أراضيهم، وهذا ليس ما أعطاهم إيّاه حقّ التقسيم، ولكن لتوسّع حدود المحتل، والسيطرة على المناطق الإستراتيجيّة في فلسطين، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نجد أنّ قوّات الاحتلال شوَّهت صورة الفلسطينيّين أمام إخوانهم العرب حتى لا يتعاطفوا معهم أو يساندوهم في معاركهم لاسترداد أراضيهم.

لولا الوهَن العربي لبقيت الإيديولوجيّة الصهيونيّة مجرّد خرافة وأحلام يقظة مريضة ليس إلّا

ويتّضح لنا أيضًا أنّ المأساة تعود في أسبابها العميقة إلى الممارسات الإرهابيّة الصهيونيّة والسياسة الاستيطانيّة الإجلائية التي قام على أساسها الكيان الصهيوني أصلًا، وقد استمر ويستمر في اتّباعها تّجاه الشعب الفلسطيني. وخير معبّر عن هذه الممارسات والسياسات هي فكرة الترانسفير (الترحيل) وشعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، التي شكّلت وما زالت مقوّمًا من مقوّمات الفكرة والممارسة الصهيونيّة.

ومع تحوّل الفلسطينيين إلى أقليّة محاصرة ومضطهدة بعد عام 1948 فإنّ الفكر الترانسفيري لم يبرح عقول وقلوب قياديي "إسرائيل" السياسيّين والاجتماعيّين والعسكريّين، حتى اللحظة.. ولولا الوهَن العربي لبقيت الإيديولوجيّة الصهيونيّة مجرّد خرافة وأحلام يقظة مريضة ليس إلّا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن