بهذا التّسريع التّفاعلي مع ما يجري في العالم، نجد أنّ الفاعلين الجدُد يمارسون قصدًا نسيانَ الكينونة اللّغويَّة، وكأنها حجرَ عثرةٍ في طريق الحداثة الفرديّة أو الحداثة الاجتماعيّة الشّاملة. وبدلَ أن تشهدَ الثورة المعلوماتيّة التي تحلُّ في المجتمع إرادةَ قوَّةٍ في التلقّي لابتكار وسائل الاشتراك الناجع في تلقُّفِها واستقبالها باستشكالٍ معرفيٍّ وأسئلةٍ علميَّةٍ نابعةٍ من حاجة الذات إلى تثوير مفاهيمها، نرى أنّ ما يجري في مجتمعاتنا هو الانجرار السّلبي لاستهلاك السّلع التي تنتجها هذه الثّورة المفتوحة، بينما الكينونة الاستهلاكيّة للفرد تؤدّي إلى كينونةٍ إهلاكيّةٍ حتميَّة في قدرته على الانتماء والإبداع والتّأثير.
الوحدة مفهوم لم يفارق ذهنيّة الشّباب الرّاهن
ليسَ ظُلمًا أن نقول لا هُويَّةَ لجاهل. والجهلُ اليوم ليس الأمِّيَّة في القراءة والكتابة، بل هو نُكرانُ الاشتغال بالذّاتِ ووضعيتها وفاعليتها في العلم الرّاهن. وهنا نسألُ المنشغلين بالهمِّ النّهضوي أو بالسّؤال الحداثي عربيًّا؛ لماذا لا يزال مفهوم الوحدة العربيّة قائمًا في الذهن الشّبابي، على الرّغم من أنّ العمل السياسي العربي، في كل ما يتعلق بمفهوم بناء الدّولة، لا يخدمُ تطلُّعات الجيل الجديد في الحريّة والديموقراطيّة والانفتاح؟ ثم هل هناك خطط استشرافيّة شاملة تبدأ من نقطة انطلاق تنمويّة هي الشابُّ العربي المتعلّم المبدع؟.
عندما نقول إنّ الوحدة مفهوم لم يفارق ذهنيّة الشّباب الرّاهن، فهذا يعني أنّ مفاعيل التفكُّر بالهُويّة الآنيَّة وصناعتها هي من اهتمامات الفرد اليوم. لذا إنّ العناية بتهيئة الظّروف السّليمة وبتجويد أنماط العيش والأمور الحياتيّة الضروريّة هي الهدف الذي لا بدَّ أن ينصبَّ عليه كل الجهد السياسي في إدارة الدّول. ثم إنّ العناية بالإنسان الفرد تولِّدُ البيئة السّليمة لولادة ذهنيّة الاختلاف في طبعه، بحيث يصبح قادرًا على التّفكير في الخيريّة، وذلك بالتّخطيط للاشتراك مع غيره في الرفاه الذي يشعر به. ويؤدي تأمين رفاهيّة الفرد حتمًا إلى تحسين التّفكير في وظيفة الجماعة التي ينتمي إليها هذا الفرد في القدرة على إضفاء مواقف وجوديّة علميّة للعلم الرّاهن. فلا يمكن ادّعاء الانتماء إلى الحضارة المعاصرة من دون الاشتراك المؤثّر في صناعتها.
منذ أسبوعَيْن تقريبًا أعلنت شركة "هواوي" الصينيّة أنّها حدَّثت برامجها التّواصليّة وتطبيقاتها، بحيث أنها تجاوزت عوائق لا تزال موجودة عند شركة "آبِّل". هنا لا نستعرض منتجات ثانويّة في السّوق العالميّة اليوم، بل إنّنا نعاينُ مظهر الانفتاح من خلال الآلة التواصليّة التي تُمكِّن الإنسان المعاصر من الارتباط بشكل أكثر فاعلية بقدرات الذّكاء الاصطناعي التي أصبحت واجبة الوجود في تسيير الكثير من الأمور والوظائف العلميّة الكبرى.
من هنا لا بد أن نلتفت إلى مسألةٍ شديدة الأهمية هي اللّغة. إنّ اللّغة التي نعنيها ليست الحروف الأبجديّة التي يجب أن تكون في تكويننا الثّقافي بالبداهة، بل نقصد اللّغة العلميّة التي يجب أن نبني بها لغتنا. وهذا ما لا يتحقَّقُ بالاغتراب عن اللّغة التي نتخيَّلُ بها ونشعر ونفكّر ونتفلسف. نعم، لا يمكننا أن نُبدِع ما لم نتفلسف كل الوقت ونتخيَّل، بل ونكتب مشاعرنا ونقولها برصانة ومتانةٍ لا تُبقي ذواتنا مفترقةً عن موضوعاتها.
لذا إنّ العناية باللّغة ليست من باب التّثقيل على الفرد، بل هي من باب البناء العلمي لذاتِه حيث هي. وإذا أردنا لهذا الفرد أن يبني هُويَّته حيث هو، ومن دون عقدة المحلِّي والكوني، فعلينا أن نحرصَ على صدق الوصلِ بين الجوّاني والبرّاني في شخصيته، حتى يتكلَّم بما يلائم تفكيره في مجتمعه. وهنا يواكِبُ الإنسانُ القيم العليا التي تجعله ذاتًا لا يمكن استثناؤها في هذا الكون.
على الإنسان المتعلّم أن يصرَّ على تجديد مواقفه وتصوّراته للعالم حتى يخرج بعلوم تنفع التقدّم البشري
وقلنا عقدة المحلّي/الكوني، لأنها على ما يبدو تأخذ حيّزًا لا يُستهان به في تشكُّل الذّوات في بلداننا. ما ينبغي أن نعلمه في هذا السياق هو سذاجة الفصل بين المحلّي والكوني، فالإنسان لا يوجد في كلّ العالم دفعةً واحدة، ولا يدير ظهره للعالم أيضًا، بل ما يجري فعلًا هو العناية الكاملة بالمحلّ، بحيث يصبح كل ما ينجم عنه حاجةً كونية، وإلّا يكون هذا المحلّ بذاته متخلِّفًا عن أن يكون كونيًّا.
الكونيّة تحتاج لتخطيطٍ محلِّي دقيق لتحقيق الانخراط في سياقاتها. أمّا أن تُهيمنَ ثقافةٌ على العالم بقوّة السلاح والمال، فهذا ليس من الكونيّة في شيء، بل هو اعتداء ثقافة على علوم الكون. وما على الإنسان المتعلّم أينما حلَّ، سوى أن يصرَّ على تجديد مواقفه وتصوّراته للعالم، حتى يخرج دومًا بعلومٍ تنفع التقدّم البشري، وتؤكد حاجةَ الإنسان إلى أخيه الإنسان.
(خاص "عروبة 22")