صارت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفي القلب منها العالم العربى، هي المنطقة الأشد معاناة في عالم اليوم من ظواهر النزوح والتهجير واللجوء والارتحال لملايين السكان بسبب الحروب عبر الحدود والحروب الأهلية والفقر وغياب فرص العمل وتداعيات التغير المناخي (التصحر وارتفاع درجات الحرارة وانهيار النشاط الزراعي).
فالوجه الآخر للحرب الأهلية في السودان التي تدمى البلد المترامي الأطراف والحرب في غزة المتواصلة منذ خريف العام الماضي والحرب في لبنان التي توقفت بهدنة هشة والوضع الكارثي في سوريا التي تزحف بها جماعات إرهابية على مدن الشمال الغربي، الوجه الآخر لخرائط الدم والدمار هذه هو ملايين النازحين والمهجرين في داخل كل بلد وملايين اللاجئين عبر الحدود في منطقتنا ومنها إلى خارجها.
بل أن تواصل بعض الحروب والحروب الأهلية على مدار سنوات، كما هو الحال فىي سوريا الواقعة في أسر حرب أهلية منذ 2012، يسبب موجات متكررة من النزوح واللجوء في اتجاهات متنوعة وعكسية. كأن تنزح أعداد كبيرة من السوريات والسوريين إلى لبنان وتركيا بين 2012 و2016، ثم يعود بعضهم على وقع الحرب في لبنان 2024 إلى قراهم ومدنهم في سوريا ويعود البعض الآخر من المناطق التركية إلى المناطق حول حلب وحماة وإدلب التي أخرجت منها الجماعات الإرهابية قوات الجيش خلال الأيام الأخيرة.
هذا الوجه الآخر لحروب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يضاعف من تداعياته الكارثية عمليات الارتحال واللجوء المتزايدة بسبب محدودية عمليات التنمية الشاملة في العديد من البلدان وتفاقم الصعوبات المعيشية بفعل التغير المناخي واندفاع الشباب إلى البحث عن النجاة من الفقر والبطالة والبحث عن فرص للعمل وللحياة الكريمة بعيدا عن أوطانهم. فكان أن صارت منطقتنا ومنذ العقد الماضي المصدر الأول للمرتحلين والمهاجرين غير الشرعيين واللاجئين الطارقين أبواب أوروبا، وكان أن صارت منطقتنا الممر الأول للقادمين من بلدان آسيا (كأفغانستان) وإفريقيا (الجوار المباشر للبلدان العربية في وسط وغرب القارة) للباحثين عن ملاذات أوروبية.
يترتب على وجود ملايين النازحين واللاجئين العديد من التحديات المجتمعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي تواجه البلدان الطاردة والبلدان المستقبلة. فيما خص البلدان الطاردة كالسودان وسوريا اليوم، تضغط عمليات النزوح الداخلي (في البلد المعني من مناطق إلى أخرى) على المتبقي من القدرات الاقتصادية والاجتماعية الهشة وعلى المؤسسات الرسمية والقطاع الخاص الذي يتعرض لأخطار الانهيار.
وليس ما يحدث في السودان الذي يتجاوز عدد نازحي الداخل به 10 ملايين مواطن في ولايات كدارفور وكردفان والمناطق القريبة من الحدود مع مصر أو ما يحدث في سوريا في مدن حلب وحماة وإدلب التي تعود إليها أعداد كبيرة ممن نزحوا داخليا سابقا، ليس فيما يحدث في البلدين سوى الدليل على العجز الاقتصادي والاجتماعي على استقبال النازحين وتوفير فرص الحياة الآمنة والكريمة لهم.
تواجه البلدان الطاردة لمواطنيها أيضا أخطار "الفراغ السكاني" في الأماكن التي تشتد بها مفاعيل الحروب الأهلية والصراعات العسكرية ويتوقف بها كل نشاط اقتصادي واجتماعي وخدمي منظم وتنسحب منها المؤسسات الرسمية والقطاع الخاص. وفي السودان وسوريا يودي الفراغ السكانى، وهو فراغ يستدعي في كثير من الأحيان انسحابا كاملا وكارثيا للدولة يودي بكل فرص التنمية المستدامة ليس فقط في المرحلة الراهنة، بل أيضا لسنوات قادمة. كما أن عودة النازحين والمهجرين داخل البلد الواحد إلى أماكن إقامتهم الأصلية، حين تحدث تثير العديد من الإشكاليات المرتبطة بإعادة الاندماج في حياة مجتمعية تغيرت، والتعامل مع حقائق اقتصادية واجتماعية وسياسية تبدلت، وربما تثير أيضا إشكاليات أخرى تتعلق باستعادة حقوق ملكية فقدت والبحث عن مفقودين اختفى أثرهم وعلاقات أسرية ضاعت خيوطها.
أما فى البلدان المستقبلة كمصر ولبنان والأردن وتركيا، فينبغي التمييز بين التحديات المباشرة والتحديات غير المباشرة لوصول أعداد كبيرة من اللاجئين. تتمثل التحديات المباشرة في الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لتوفير حياة آمنة وكريمة للاجئين بكل ما يعنيه ذلك من محال للإقامة وأماكن للتعليم والعمل وفرص للحصول على الرعاية الصحية والرعاية الشخصية.
وفضلا عن ضرورة حضور الإرادة السياسية لحكومات البلدان المستقبلة بغية التعامل مع التحديات المباشرة لقدوم اللاجئين، تحتاج بلدان مركزية وذات قدرات إدارية متماسكة كمصر وتركيا والأردن إلى استصدار قوانين تنظم وجود وحياة اللاجئين وتضمن حقوقهم وواجباتهم وكذلك تصميم وتطبيق سياسات موحدة تجاه كافة مجموعاتهم لا تميز بين السودانيين واليمنيين في الحالة المصرية وبين السوريين وغيرهم من اللاجئين فىي الحالة التركية.
أما لبنان، وهو على سبيل المثال يتسم بضعف قدرات الحكم والإدارة وبتركيبة سكانية تصعب الاندماج في النظام التعليمي وسوق العمل لغير اللبنانيين، فيحتاج دوما إلى إدارة لملف اللاجئين تحد من التوترات الطائفية والمجتمعية وتحول دون تفجر الأوضاع السياسية في بلد خبر الحرب الأهلية في الماضى ويتجدد اقترابه من هاويتها بين الحين والآخر.
في جميع البلدان المستقبلة للنازحين واللاجئين ثمة ضرورة قصوى لإدارة حوار مثمر مع المانحين الدوليين، حكومات ومنظمات أممية ومجتمع مدني، بهدف تأمين احتياجات الملايين الذين قدموا عبر الحدود ومساعدة حكومات مصر ولبنان والأردن وتركيا على التوفيق بين متطلبات اللاجئين وأسرهم وبين التزاماتهم المعيشية والتنموية تجاه شعوبهم.
والشاهد أنه لا ضرر على الإطلاق من العمل في البلدان المستقبلة من أجل الحصول على مساعدات المانحين الدوليين والاستفادة منها، مثلما يظل النقاش العام بشأن تمرير قوانين تنظم حياة اللاجئين مهمة عاجلة وضرورية لتمكينهم من الاستقرار والحيلولة دون حدوث توترات مع الأغلبيات المجتمعية.
أما التحديات غير المباشرة لظواهر النزوح واللجوء في البلدان المستقبلة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فخيطها الناظم هو صعوبات الاندماج في بيئات جديدة من وجهة نظر المرتحلين وفي بيئات لم تعهد قدوم أعداد كبيرة من خارجها للحياة بين ظهرانيها. وتستدعي التحديات غير المباشرة هذه، وهي ستتزايد أهميتها مع مرور السنوات، إدارة حوارات قانونية وسياسية ومهنية حول شروط الاندماج وحدوده، حوارات تتجنب من جهة المقولات العنصرية والشوفينية التي تتعامل مع اللاجئين كوباء مميت وتتجنب من جهة أخرى المقولات شديدة المبالغة في مثاليتها بإنكارها لوجود صعوبات وأزمات تترتب على قدوم اللاجئين وشيوع مخاوف بين "أهل البلد" على فرصهم هم في قطاعات التعليم والعمل والقطاعات الخدمية والمهنية.
هذه هي بعض الحقائق التي تنتجها ظواهر النزوح والتهجير واللجوء والارتحال التي أضحت من وقائع حياتنا اليومية في منطقتنا المنكوبة بحروب عبر الحدود وحروب أهلية وصراعات عسكرية وبانتشار ميليشيات وجماعات إرهابية تهدد مجتمعة فرص الحياة الآمنة والكريمة وتباعد بيننا وبين التنمية الشاملة وتحد كثيرا من إمكانيات استقرار الدول ومقومات العيش المشترك.
(الشروق المصرية)