وجهات نظر

الحضور الاستثماري العربي في أفريقيا

أضحت القارة الأفريقية خلال الأعوام القليلة الماضية ساحة تنافس استثماري بين عدد من القوى الاقتصادية الكبرى، خاصة الصين والولايات المتحدة الأمريكية، مع تسجيل تراجع للحضور الأوروبي في عدد من المناطق، جنوب الصحراء الكبرى التي شهدت خلال الآونة الأخيرة مجموعة من الانقلابات العسكرية، فتحت المجال لتسرّب فاعلين سياسيين واقتصادين جدد قد يكون لهم دور محوري في تغيير قواعد اللعبة في المنطقة.

الحضور الاستثماري العربي في أفريقيا

تأتي هذه التغيّرات في ظلّ سعي عدد من الدول العربية إلى إعادة تموقعها السياسي والاقتصادي داخل القارة، فجمهورية مصر العربية لا تخفي تطلّعاتها لتعزّز حضورها الاستثماري في أفريقيا وهو الحضور الذي تجاوز سنة 2022 سقف العشرة مليارات دولار، التطلّعات ذاتها تعبّر عنها دول أخرى كالمملكة المغربية والجزائر، غير أنّ الحديث عن التطلّعات الاستثمارية لهذين البلدين العربيين يحيلنا على أبعاد تنافسية أخرى تصطبغ بالصبغة السياسية والتمركز الجغرافي في غرب القارة وذلك لعدّة اعتبارات، يتداخل فيها تارة ما هو ثقافي ــ تاريخي، وتارة أخرى ما هو مرتبط بالإرث الاستعماري، كما يتداخل فيها أيضًا ما هو سياسي وجيوستراتيجي، فالبلدان يسعيان من خلال البوابة الاقتصادية ــ الاستثمارية لتحصيل مكاسب سياسية تعزّز موقعهما كقوّتين إقليميتين بالمنطقة.

المغرب تفعّل اتفاقية "التجارة الحرّة" القارية الأفريقية وتعمل على بناء تكتل أفريقي أطلسي للتعاون الاقتصادي والأمني

لم تُخفِ المملكة المغربية تطلّعاتها الاستثمارية نحو الجنوب، فمنذ اعتلاء العاهل المغربي العرش سنة 1999 عبّر بشكل صريح عن رغبته في ربط المغرب بجذوره الأفريقية، وذلك بعد قطيعة دامت لعقود بعد انسحاب المملكة من منظمة الوحدة الأفريقية سنة 1984 على خلفية قبول عضوية جبهة البوليساريو الانفصالية بالمنظمة، وهو الأمر الذي استُهلّ بزيارات عديدة قام بها العاهل المغربي عقب اعتلائه العرش إلى مجموعة من الدول الأفريقية في غرب ووسط القارة وجنوبها، مكّنت المملكة من مضاعفة حضورها الاستثماري في القارة الأفريقية الذي قارب الخمسة مليارات دولار سنة 2023 موزّعة على قطاعات عدة، في مقدمتها الصناعات الاستخراجية والاتصالات والمصارف والتأمينات والنقل والأشغال العمومية، وهو ما مكّن المغرب من التغلغل في النسيج الاقتصادي لعدد كبير من الدول الأفريقية، ورفع سقف طموحه إلى خلق تكتل اقتصادي إقليمي، يكون بديلًا لفشل تكتل المغرب العربي، هذا السعي يؤكده انخراط الرباط الفعّال في تفعيل اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية والسعي للانضمام لمنظمة "سيداو" إلى جانب عملها على بناء تكتل أفريقي أطلسي موجّه للتعاون الاقتصادي والأمني.

بالموازاة مع هذه التوجهات، تعمل المملكة على مستويات أخرى مرتبطة بتعزيز السيادة الغذائية والطاقية لعدد من بلدان القارة في إطار مشاريع قارية كبرى كمشروع أنبوب الغاز النيجيري المغربي الذي من المزمع أن يمرّ بثلاث عشرة بلدًا أفريقيًا ومشاريع مركبات صناعة الأسمدة، إلى جانب عملها على تقوية بنية الربط الطرقي والمينائي.

الجزائر تسعى إلى تجاوز آليات التعاون الاقتصادي المعتمدة لصالح آليات جديدة 

من جهتها، تحاول الجزائر رسم ملامح سياسة اختراق استثماري جديدة للعمق الأفريقي، بالاعتماد على آليات جديدة دون التخلي عن أدوات العمل التقليدية التي دأبت على اعتمادها كآلية الدعم والمساعدة المالية، حيث أعلنت الجزائر خلال القمة رقم 36 لرؤساء دول وحكومات الاتحاد الأفريقي الأخيرة عن منح مليار دولار من أجل دعم التنمية بالقارة الأفريقية، إلى جانب آلية إسقاط الديون التي بلغت قيمتها أكثر من 920 مليون دولار لفائدة عدد من الدول الأفريقية، وهي المبالغ التي كان بإمكان الجزائر عوض التخلّي عنها، تحويلها إلى استثمارات في البلدان المدينة وبالتالي تحقيق اختراق استثماري سيكون حتمًا له دور كبير في تعزيز حضور الجزائر داخل القارة، وهو حضور لا يزال ضعيفًا مقارنةً ببعض دول شمال أفريقيا، كمصر والمغرب، وهو ما يعكسه حجم المبادلات البينية مع أفريقيا خارج المحروقات الذي يبلغ 4 مليارات دولار مع توفّر طموح لرفعه إلى 7 مليارات سنة 2023 الجارية.

دفع هذا الطموح الجزائر للسعي إلى تجاوز آليات التعاون الاقتصادي المعتمدة لصالح آليات جديدة ترمي إلى تعزيز الوجود المصرفي في عدد من الدول الأفريقية وتكثيف المجهودات على مستوى تقوية بنية الربط الطرقي والمينائي والجوي، والانخراط في مشاريع قارية، كمشروع أنبوب الغاز النيجيري ــ الجزائري وغيره، وهي المشاريع التي قد تعزّز فرص الاستفادة من اتفاقية منطقة التجارة الحرّة الأفريقية وتعزيز الحضور الاستثماري للجزائر.

على الرغم من أنّ الغاية من الحضور الاستثماري المغربي ــ الجزائري داخل القارة الأفريقية تكتسي طابعًا اقتصاديًا، إلا أنه لا يمكن التغاضي عن الأبعاد السياسية التي أضحت تؤطّر التنافس الاقتصادي بين البلدين، وإن اختلفت الآليات المعتمدة لتدبير هذا التنافس، إلا أنّ السعي إلى توظيف الأداة الاقتصادية لتحصيل مكاسب سياسية ودبلوماسية يظلّ حاضرًا بقوة، بل نعدّه أحد المحددات الرئيسية لرسم التوجهات الاستثمارية لكلا البلدين، وهي التوجهات التي نجح من خلالها البلدان في تعزيز حضورهما الاقتصادي داخل القارة، بنسب متفاوتة، خاصة بالنسبة للمملكة المغربية التي نجحت في توظيف ذراعها الاقتصادي المقاولتي الخاص الذي يتميّز بالمرونة والفاعلية، في حين تحاول الجزائر تحديث آلياتها وتسريع التخلّص من نمطية نظامها الاقتصادي المرتبط بشكل كبير بالمحروقات وتنويعه، وفسح المجال أكثر فأكثر أمام القطاع الخاص ليتولّى مهام الاختراق الاستثماري عوض الاكتفاء بالتوجّهات الحكومية القائمة على مبدأ الدعم والمساعدة. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن