الاقتصاد العربي.. وضرورات التكامل

بين الاتحاد الأوروبي وتجارب التّعاون العربي: دروس للمستقبل (2/2)

تشكلت التجربتان الأوروبية والعربية في الوحدة الإقليمية تحت ظروف تاريخية وسياسية مختلفة تمامًا، ما يؤدي إلى اختلاف جذري في نتائجهما. الاتحاد الأوروبي يمثل نموذجًا استثنائيًا للنجاح في التكامل الإقليمي، بينما لا تزال الجامعة العربية، مثلًا، تعاني من تحديات هيكلية وسياسية تحول دون تحقيق أهدافها. ومع ذلك، تظل تجربة الاتحاد الأوروبي درسًا مهمًا يمكن للعالم العربي أن يستفيد منه لإعادة التفكير في أسس التعاون الإقليمي.

بين الاتحاد الأوروبي وتجارب التّعاون العربي: دروس للمستقبل (2/2)

كانت البداية الأوروبية عقب الحرب العالمية الثانية التي خلفت دمارًا شاملًا في القارة. أدرك القادة الأوروبيون آنذاك أنّ التكامل الاقتصادي يمكن أن يمنع نشوب الحروب في المستقبل ويؤسس لسلام دائم. بدأ المشروع الأوروبي من خلال الجماعة الأوروبية للفحم والصلب في الخمسينيات، وهو اتفاق اقتصادي محدد صُمِّم بعناية لبناء الثقة بين البلدان الأعضاء. لاحقًا، تطورت هذه الجهود تدريجيًا إلى السوق المشتركة، ثم إلى الاتحاد الأوروبي الذي نعرفه اليوم، ويضم آليات سياسية واقتصادية معقدة.

الاتحاد الأوروبي بدأ بتكامل اقتصادي محدود في مجالات أساسية ثم انتقل إلى مجالات أخرى تدريجيًا 

على الجانب الآخر، جاءت الجامعة العربية في سياق مغاير تمامًا. تأسست عام 1945 عندما كانت العديد من البلدان العربية لا تزال تحت الاحتلال الأجنبي أو تعاني من تبعات الاستعمار. على رغم الروابط المشتركة بين البلدان العربية في اللغة والدين والثقافة، تعيق الانقسامات السياسية والمصالح المتضاربة تحقيق الوحدة الفعلية.

تأسست الجامعة العربية بهدف تعزيز التنسيق بين البلدان الأعضاء، لكنها لم تتطور لتصبح منظمة ذات سلطات فاعلة أو مؤسسات قوية كما هي الحال في الاتحاد الأوروبي.

يكمن الفرق الجوهري بين التجربتين في النهج. الاتحاد الأوروبي تبنى نهجًا تدريجيًا، إذ بدأ بتكامل اقتصادي محدود في مجالات أساسية مثل الفحم والصلب، ثم انتقل إلى مجالات أخرى تدريجيًا مثل الزراعة، والتجارة، والعملات. هذا النهج أعطى البلدان الأعضاء فرصة لبناء الثقة في ما بينها واختبار فاعلية التعاون قبل الانتقال إلى مستويات أعلى من التكامل السياسي. أما الجامعة العربية، فتركّز منذ البداية على المسائل السياسية الكبرى مثل القضية الفلسطينية والاستقلال عن الاستعمار، من دون وضع استراتيجية بعيدة الأجل للتكامل الاقتصادي أو تعزيز التعاون في القطاعات الحيوية.

وعلى رغم محدودية فاعلية الجامعة العربية، برزت محاولات تعاون خارج إطارها بين بعض البلدان العربية، مثل مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي تأسس عام 1981. يُعتبَر المجلس نموذجًا نسبيًا للنجاح مقارنةً بالجامعة العربية، إذ يركز في شكل أكبر على التعاون الاقتصادي والأمني بين أعضائه. كذلك تساهم مبادرات ثنائية مثل التنسيق الأمني بين مصر والسودان أو التعاون الاقتصادي بين المغرب وبلدان الخليج في تعزيز العلاقات العربية بعيدًا عن القيود الهيكلية التي تواجهها الجامعة. هذه المحاولات تعكس أهمية البحث عن نماذج بديلة للتعاون الإقليمي تتجاوز الأساليب التقليدية للجامعة العربية.

الديموقراطية توفر بيئة سياسية مستقرة وشفافة تُمكّن البلدان من التعاون في شكل أفضل

الديموقراطية والاستقرار السياسي هما عاملان أساسيان في نجاح الاتحاد الأوروبي. فقد تمتعت البلدان الأوروبية بأنظمة سياسية ديموقراطية تضمن التوازن بين السلطات، وتحترم حقوق الإنسان، وتدعم مؤسسات قوية. هذه العوامل أسست أرضية صلبة للتعاون الإقليمي. في المقابل، تعاني العديد من البلدان العربية من غياب الديموقراطية واستمرار الأنظمة السلطوية. هذا الواقع يؤدي إلى ضعف المؤسسات الإقليمية مثل الجامعة العربية، التي تعتمد في قراراتها على قاعدة الإجماع، ما يجعل اتخاذ القرارات الفاعلة أمرًا بالغ الصعوبة.

علاوة على ذلك، يتميّز الاتحاد الأوروبي بوجود مؤسسات قوية وفاعلة مثل البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية، اللذين يمتلكان، على التوالي، صلاحيات حقيقية لتشريع السياسات المشتركة وتنفيذها. هذه المؤسسات تعكس تطورًا تدريجيًا في عملية التكامل، إذ تتحقق التوازنات بين البلدان الأعضاء من خلال آليات تصويت مرنة تعتمد على الأغلبية أو الإجماع بحسب المسائل المطروحة. في المقابل، تعاني الجامعة العربية من هياكل ضعيفة لا تتمتع بصلاحيات تنفيذية حقيقية، إذ تبقى قراراتها غير ملزمة وتعتمد في شكل كبير على توافق البلدان الأعضاء كلها.

على الرغم من هذا التباين، يمكن للعالم العربي أن يستفيد من التجربة الأوروبية بطرق عدة. إذ يمكن للجامعة العربية أن تبدأ بإعادة صياغة استراتيجيتها عبر التركيز على التكامل التدريجي في مجالات محددة مثل الطاقة أو النقل أو التكنولوجيا. هذه المشاريع المشتركة يمكن أن تعزز من الثقة بين البلدان العربية وتولّد شعورًا بالنجاح التدريجي، ما يمهد الطريق لمزيد من التعاون في المستقبل.

الاقتصاد كركيزة للتكامل يتيح تحقيق مكاسب ملموسة تعزز من شرعية التعاون الإقليمي

على المستوى السياسي، هناك حاجة ماسة إلى إصلاح الجامعة العربية نفسها. من الممكن إدخال تغييرات على آليات اتخاذ القرار لكي تكون أكثر مرونة وفاعلية. مثلًا، يمكن استبدال قاعدة الإجماع بآليات تصويت تعتمد على الأغلبية في بعض المسائل. كذلك يمكن تعزيز دور الأمانة العامة للجامعة لتصبح أكثر قدرة على تنفيذ القرارات ومتابعتها.

الديموقراطية هي عامل رئيسي يجب أن يكون جزءًا من أي استراتيجية بعيدة الأجل لتحقيق الوحدة العربية. والديموقراطية لا تعني فقط مشاركة الشعوب في اتخاذ القرارات، بل توفر أيضًا بيئة سياسية مستقرة وشفافة تُمكّن البلدان من التعاون في شكل أفضل. إذا استطاعت البلدان العربية تعزيز أنظمتها الديموقراطية، سيعطي ذلك الجامعة العربية مصداقية أكبر ويزيد من فاعليتها.

الوحدة هدف يمكن تحقيقه إذا توفرت الإرادة السياسية والتخطيط السليم

يقدم الاتحاد الأوروبي أيضًا درسًا مهمًا حول أهمية التركيز على الاقتصاد كركيزة للتكامل. الاقتصاد يمثل لغة مشتركة بين البلدان، ويتيح تحقيق مكاسب ملموسة تعزز من شرعية التعاون الإقليمي. مثلًا، يمكن للعالم العربي أن يعمل لإنشاء سوق مشتركة، أو تطوير شبكة نقل إقليمية تربط البلدان العربية في شكل أفضل.

يُظهر النجاح الأوروبي أنّ الوحدة ليست مجرد حلم، بل هي هدف يمكن تحقيقه إذا توفرت الإرادة السياسية والتخطيط السليم. وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي يواجهها العالم العربي، فإنّ بناء تعاون إقليمي أكثر فاعلية ليس أمرًا مستحيلًا. يحتاج ذلك إلى تبني رؤية واضحة واستراتيجية تدريجية، تبدأ من الأساسيات مثل التعاون الاقتصادي والبنى التحتية المشتركة، وصولًا إلى تحقيق تكامل سياسي يعكس طموحات الشعوب العربية.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن