ما إن أنهى أبو مازن مؤتمرًا صحافيًّا جمعه بالمستشار الألماني أولاف شولتس في العاصمة الألمانيّة برلين، حتى قامت الدنيا ولم تقعد، إذ واجه الرّجل اتّهامات بـ"إنكار الهولوكوست" و"معاداة الساميّة".
اضطّر عبّاس تحت الضّغوط إلى إصدار بيان توضيحي أدان فيه "الهولوكوست" وأقرّ بأنه "أبشع الجرائم التي حدثت في تاريخ البشريّة الحديث".
بعد 7 أكتوبر أصبح الرّبط بين "محرقة غزّة" و"هولوكوست النّازي" أمرًا عاديًّا ترصده المنظّمات المعنيّة في تقاريرها
تملك إسرائيل ومن خلفها مجموعات الضّغط الصّهيونيّة فائضًا من القوّة والنّفوذ، يجعلها قادرةً على كتم أي صوتٍ يُنكر أو حتى يُشكّك في تلك "المحرقة" التي جرت قبل 8 عقود، ولم يتمّ توثيق وقائعها وقصصها سوى من يهود أوروبا الذين عاشوا في ألمانيا والدّول التي خضعت للاحتلال العسكري النّازي، وتبنّت حكومات ووسائل إعلام دول الحلفاء التي انتصرت في الحرب العالميّة الثانيّة تلك السرديّة التي تمّ تصديرها إلى العالم باعتبارها "نصًّا مقدّسًّا" لا يجوز التّشكيك فيه.
حتّى تاريخ ما قبل "طوفان الأقصى"، كان الصهاينة قادرين على تصدير سرديّتهم عن "المحرقة" بأريحيّة ومن دون تنغيص من أي طرف يحاول أن يربط ما يرتكبوه في فلسطين المحتلّة من جرائم، وبما جرى في عهد النّازي من مذابح لليهود.
بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، صار العالم يتابع بالصّوت والصّورة وعلى الهواء مباشرةً جرائم جيش الاحتلال ضد أهالي غزّة العُزّل، حتّى أصبح الرّبط بين "محرقة غزّة" و"هولوكوست النّازي" أمرًا عاديًّا تتناوله منصّات الإعلام ويتحدّث عنه السّاسة والنّشطاء، وترصده المنظّمات المعنيّة في تقاريرها.
وعلى الرّغم من أنّ ما يرتكبه جنود جيش الاحتلال من جرائم صار موثّقًا ومثبتًا في تقارير المنظّمات والمحاكم الدوليّة، إلّا أنّ إسرائيل لا تزال تمارس غوايتها في "الإنكار" والهجوم على كل من يطرح تلك المقاربة "محرقة الفلسطينيّين" مقابل "هولوكوست اليهود".
قبل أيام أصدرت "منظّمة العفو الدّوليّة" تقريرًا خلص إلى أنّ إسرائيل "ترتكب جريمة إبادة جماعيّة في قطاع غزّة"، متهمًا جيش الاحتلال بارتكاب أفعال حظّرتها اتفاقيّة منع الإبادة الجماعيّة ضد الفلسطينيّين بقصد تدميرهم المادّي، و"كأنهم فئة دون البشر لا يستحقّون حقوقًا إنسانيّة ولا كرامة".
وعلى الرّغم من أنّ المنظّمة أدانت في التّقرير عينه الصّادر مطلع الشّهر الجاري حركة "حماس"، واعتبرت ما جرى في 7 أكتوبر/تشرين الأول هجمات "مميتة"، إلّا أنّ إسرائيل لم تكتفِ بـ"إنكار" ما جاء فيه، بل هاجمت المنظّمة الدوليّة "البائسة والمتعصّبة" التي أصدرت تقريرًا "ملفّقًا تمامًا مبنيًّا على أكاذيب"، حسبما ورد في إفادة الخارجيّة الإسرائيليّة.
لم يكن مستغربًا أن تُنكر الولايات المتحدة الأميركيّة ما جاء في تقرير "العفو" الدّوليّة، وتعتبر ما جاء فيه "اتّهامات لا أساس لها من الصّحة"، فحكومات أميركا شريك أساسي في معظم جرائم الإبادة الجماعيّة التي ترتكبها إسرائيل منذ تأسيسها ضد الشّعب الفلسطيني، إذ ضخّت واشنطن على مدار 8 عقود نحو 280 مليار دولار لدعم إسرائيل، منها 150 مليار دولار مساعدات مباشرة و130 مليار دولار عقود عسكريّة.
أثبتت الوقائع بما لا يدع مجالًا للشّكّ أنّ الولايات المتحدة هي حامي مشروع الإبادة الإسرائيلي الرئيسي، فلولا الدّعم الأميركي ما كان للدّولة العبريّة أن ترتكب جرائمها وتفلت من العقاب.
تستخدم إسرائيل سلاح "الإنكار" وتهاجم المنظّمات الدّوليّة التي تتّهمها بارتكاب جرائم بحقّ الفلسطينيّين، لكن كيف لها أن تنكر شهادات جنود جيشها الذين خدموا في غزّة والتي نقل بعضها وزير الدّفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه يعالون، الذي وصف جيش بلاده بأنّه "لم يعد الأكثر أخلاقيّة في العالم"، مؤكّدًا تنفيذه جرائم "تطهير عرقي" في القطاع.
يعالون، الذي يعدّ من صقور "اللّيكود" واليمين الإسرائيلي، وعلى الرّغم ممّا ناله من هجوم عنيف من السّاسة والإعلام في إسرائيل، إلّا أنّه رفض التّراجع والاعتذار، وأصرّ على تصريحاته التي نقلها عن جنود وضباط شاركوا في معركة غزّة، ودعم موقفهم برفض العودة إليها "لو كان أحد هؤلاء ضابطًا في جيش هتلر لرفض القيام بأمور معيّنة".
على كل صاحب ضمير حيّ توثيق جرائم هذا الكيان ونشرها
لم يكن مرّ على زوبعة يعالون ساعات، حتى نشرت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية تحقيقًا تضمّن شهادات لجنود حول "الفظائع التي ارتكبتها القوّات الإسرائيليّة في غزّة"، وشملت عمليات تهجير جماعي واعتقال مدنيّين غزّيين وهم عراة وتفجير بيوت ومدارس وإشعال النّار فيها بعد نهبها، ووصل الأمر إلى تصوير الجنود لأنفسهم وهم يحتفون بتلك الأفعال الشّنيعة.
صحيفة "هآرتس" العبرية التقطت الخيط، ونقلت في تقرير لها نُشر يوم الجمعة الماضي، ما يفيد بأنّ الغارات الإسرائيليّة على القطاع سحقت عائلات بأكملها "بعضها قتل 4 أجيال من العائلة نفسها، بمن في ذلك العديد من الأطفال".
الصحيفة العبريّة قالت في تقريرها إنّ "بعض العائلات، لم يتبق منها أحد على الإطلاق ليروي قصّتها"، لذا فصار على كل صاحب ضمير حيّ ليس فقط رواية قصص من قضوا في سبيل قضيّتهم، بل توثيق جرائم هذا الكيان ونشرها، عسى أن يأتي يومًا تُردّ فيه المظالم ويُعاقب فيه الجناة على ما ارتكبوه.
(خاص "عروبة 22")