تقدير موقف

دروس سوريّة

قد يكون ما جرى في سوريا قبل أسبوع مفاجِئًا، وقد تكون نتائجه السّريعة، وما جرى من انهيارٍ لنظام حديدي، وانتقال دراماتيكي للسّلطة مع طبيعة شخوصها، مُربِكة لهذا أو ذاك. إلّا أنّ صورة أبو محمد الجولاني، بلحيته "التي جرى تهذيبها"، يخطب في الجامع الأموي، لا تكتمل إلا بسَيْل الصّور التي تدفّقت من جهنّم "سجن صيدنايا العسكري" ذي الطّوابق السُّفلية المُرعبة.

دروس سوريّة

لسنواتٍ ظلّت "طبول الزّار" الإعلاميّة في أنظمتنا المستبدّة تحذّرنا من "أن نكون مثل سوريا والعراق"، ولكنّها لم تقل لنا أبدًا: كيف كان ما كان في سوريا (الأسد)، أو العراق (صدّام)؟ أو بالأحرى ما هي معالم الطّريق الذي أخذ البلدَيْن إلى ما أخذهما إليه؟ تلك المعالم التي تبدّت مع الصّور المُرعبة للزّنازين الموحشة، ولحقيقة أنّ هناك معتقلين، لا يعرفون حتى لماذا هم هناك.

لم يكن ما شهدناه ليحدث ما لم يكن النّظام ذاته قد مهّد لذلك باستبداده وآلته الأمنيّة القمعيّة الجهنّميّة

ما كان يجري في هذا المعتقل الوحشي من جرائم مُمَنهجة كان قد جرى كشفه قبل سنوات في تقريرٍ لمنظّمة العفو الدّوليّة Amnesty International (وهي منظّمة حقوقيّة تُعنى بحقوق الإنسان، وتحظى كغيرها من المنظّمات الحقوقيّة بكراهيّة "المسؤولين" العرب والإسرائيليّين على حدٍّ سواء)، يشير إلى أنّ ما يزيد على ١٧ ألفًا كانوا قد لقوا حتفَهم أثناء احتجازِهم في المعتقلات السّوريّة خلال خمسة أعوام فقط (التّقرير صدر عام 2016، والأعداد تضاعفت بعد ذلك). وقتها لم يختلف ما ورد في التّقرير الحقوقي (وحظيَ كالعادة العربيّة المُعتادة بتكذيبٍ من المسؤولين السّوريّين) عن ما يعرفه كلّ السّوريّين، أو عن ما جاء تفصيله في كتاب يوثّق (أكرّر: "يوثّق") تلك الفظائع، كان قد صدر في أكتوبر/تشرين الأول 2015، ويحمل عنوان "عمليّة قيصر". وقيصر هذا هو الاسم المستعار لمصوّر في قسم التّوثيق في الشّرطة العسكريّة السّوريّة، كانت مهمّته تصوير الجثث وأرشفتها. ثم كان أن تمكّن من الهرب إلى أوروبا في يوليو/تموز 2013. ومعه ما يزيد عن 45 ألف صورة، للتّعذيب والانتهاكات التي تحدث في السّجون التي كان مع زملائه يتولّى، بحكم وظيفته أرشفة جثث ضحاياها.

لكلّ نتيجة مقدّماتها. ولم يكن ما شهدناه قبل أسبوع من سقوطٍ للنّظام (وتداعيّات ذلك السّقوط) ليحدث بهذه الطّريقة الدراماتيكيّة، أو أن يحتفي بسقوطِه السّوريّون بتلك الطّريقة ما لم يكن النّظام ذاته قد مهّد لذلك باستبداده وآلته الأمنيّة القمعيّة الجهنّميّة. وهي تجربة تكرّرت مائة مرّة عبر التّاريخ من رومانيا (تشاوشيسكو) شرقًا، إلى تشيلي (بينوشيه) غربًا. والأمثلة عبر التّاريخ والجغرافيا لا تُعدّ ولا تُحصى.

من الظّلم أن يُجادل جالسون في مقاعدهم أولئك الذين فقدوا أحبّاءهم أو مستقبلهم خلف أسوار المعتقلات أو في المنافي

صحيحٌ أنّنا ربّما لا نعرف، بما يكفي من هو أحمد الشّرع (أو أبو محمد الجولاني) بكل ما يعنيه الاسم/اللّقب من دلالات. ولكنّي لا أحسب أنّ الأمر يختلف كثيرًا إنْ كنّا بصدد ما نعرفه (أو لا نعرفه) أو بتنا نعرفه عن كثير من "الزّعماء والقادة" الّذين جثموا على أنفاسنا (أو ما زالوا)، في هذا البلد العربي أو ذاك (لا أريد أن أضرب أمثلة).

أتفهّم التّشكيك في شخصيّة قائد (التّحرير) كما في تاريخه، ولكن أيًّا كانت الدّوافع وراء هذا التّشكيك، أو أيًّا كانت صحّة المنطق الذي يستند إليه، فمن المنطق الصّحيح أيضًا أنّ ما من غريقٍ يطلب من منقذِه إبراز بطاقة الهُويّة، أو صحيفة "الحالة الجنائيّة" قبل أن يصعد معه إلى قارب الإنقاذ. فأرجوكم، قبل أن تجلسوا في مقاعدِكم الوثيرة لتُحاسِبوا السّوريّين على فرحتِهم حاسِبوا أوّلًا من أغرقَهم لعقودٍ في بحار من اليأس والدّماء.

صحيحٌ أنّ المخاوف في محلّها، فالأصابع التي تلعب فوق الطّاولة (وتحتِها) كثيرة، والخارطة معقّدة التّفاصيل، والمستقبل شديد الغموض. ولكن ما جرى بحلوِه ومُرِّه، وتداعيّاته غير المحدودة على الإقليم بأكمله، بدا حتميًّا بحكم ما قرأناه من دروس التّاريخ.

الدّيكتاتوريّات بحكم طبيعتها تسمح بنموّ عوامل تنخر تدريجيًّا في أساساتها حتى تنهار في نهاية المطاف

أتفهّم مشاعر القلق عند الصّادقين في مشاعرهم، لا أولئك الذين اعتادوا الاستفادة من بقاء المستبدّين في مقاعدهم، تحت وهم "الاستقرار" وفزّاعة "الإرهاب".

وأتفهّم أنّ "لكل مخاضٍ آلامه وتوجّساته"، بل ومخاطره؛ التي لا يمكن حسابها حسابًا دقيقًا في تلك اللّحظة المفصليّة في تاريخ المنطقة والعالم.

ولكنّي أتفهّم أكثر بكثير حقّ الشّعب السّوري في أن ينال (حرّيته). كما أحسب أنّ من الظّلم الإضافي أن يُجادل بعض الجالسين في مقاعدهم الوثيرة أولئك الذين فقدوا أحبّاءهم أو مستقبلهم خلف أسوار السّجون والمعتقلات، أو في المنافي البعيدة.

عقود من القمع والقهر والاستبداد هي التي فعلت بنا ذلك وعلينا أن نتعلّم الدّرس

الدّيكتاتوريّات لا تحمي بلادها، بل على العكس، فهي بحكم طبيعتها تسمح بنموّ، وإن بطيء، لعوامل من شأنها أن تنخرَ تدريجيًّا في أساساتها حتى تنهار في نهاية المطاف. أمراض الدّيكتاتوريّات الّتي تعمل على انهيار الأمم أكثر من أن تُحصى أو تُعدّ بدءًا من فسادٍ حتمي للأوليغاركيا التي تعتمد عليها المنظومة الحاكمة، وليس نهايةً بالميكيافليّة البراغماتيّة الانتهازيّة التي تدفع الحاكم لأن يتواطأ بالصّمت أو خلف السّتار مع (العدو)، أو مع القوى العظمى في هذا العالم، لا لشيء إلّا ليضمن "استقراره" على كرسيّه. فعلتها كليوباترا حين لم تتردّد في محاولة التّحالف مع الغزاة الرّومان في مواجهة شقيقها ذاته حين كان ينازعها العرش والسّلطة. فضلًا عن أنّ تاريخنا العربي (الحديث، والذي ما زلنا نعيشه) حافل بأمثلة ليس هنا مجال التّذكير بها، وإن لم تكن أقلّ دناءة مما فعلته الملكة البطليميّة.

وبعد،

فعندما كتبتُ في "الشّروق" المصريّة (نوفمبر/تشرين الثّاني 2016) عن سجن صيدنايا، محاولًا التّنبيه إلى حقيقة أنّ الطّريق إلى ما جرى في سوريا (بشّار) والعراق (صدّام) يمرّ عبر السّجون والمعتقلات لا غير، وأنّ الاحتجاج والثورة هما نتاج حتمي للقمع والظّلم، وأنّ العدل (وحده) هو ضمان الاستقرار للمجتمعات، استفزّ مقالي من استفزّ، إذ هناك دائمًا من لا يريد أن يرى (أو يرى النّاس) الحقيقة المجرّدة. ولكن هذا لا يحول أبدا دون أن تظلّ هي "الحقيقة".

ربّما كان من الصّحيح (وهو صحيح تمامًا) أنّنا في سوريا، وعالمنا العربي (أو الّذي كان كذلك) نمضي إلى المجهول، ولكن هذا لا ينفي حقيقة أنّ لكل نتيجة مقدّماتها، وأنّ عقودًا من القمع والقهر والاستبداد هي التي فعلت بنا ذلك… وأنّ علينا أن نتعلّم الدّرس.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن