يؤكد السعي الفرنسي والأوروبي لتأجيج الصراع في النيجر والساحل، بالفعل، أن توصيف “جوزيف بوريل” لبقية العالم بالأدغال على حساب حديقة أوروبا لم يكن زلة لسان، إنما هو تعبير عن جوهر التفكير الغربي تجاه الآخرين: بقية العالم غير الأوروبي يعيش في أدغال ويسعى لمهاجمة الحديقة المنظمة والزاهية التي صنعها الرجل الغربي في بلاده، لذلك، ينبغي أن يتم إلهاؤه داخل أدغاله وإبقائه هناك حفاظا على جمال ورونق الحديقة.
قال بوريل بالحرف: “معظم بقية العالم هو أدغال وقد تغزو الأدغال الحديقة، وعلى الأوروبيين أن يكونوا أكثر انخراطا، مع الوضع في بقية العالم، وإلا بقية العالم سيغزوننا…”.
وإن كان “جوزيف بوريل” قد حاول الاعتذار عن كلامه منذ أشهر (أكتوبر 2022) مُحاولا إعطاءه تفسيرا آخر، لكن الذي يتابع السياسة الفرنسية المدعومة اليوم من الاتحاد الأوروبي في إفريقيا، يتأكّد له أن التفكير بمنطق الحديقة والأدغال مازال قائما. إنهم يريدون لسكان الأدغال أن يتصارعوا فيما بينهم، وأن يتوقفوا عن التفكير في زيارة الحديقة الأوروبية أو الحلم بالعيش فيها، ولكي يتحقق ذلك، ينبغي إشعال مزيد من الحروب بينهم هناك، وإغراقهم فيها، بل وجعل هذه الحروب غير قابلة للانتهاء حتى يستمر سراق خيرات “الأدغال” في نهبها لمزيد من رونق الحديقة…
ينبغي أن تبقى ليبيا غير مستقرة (تجدّد الاشتباكات في طرابلس أمس)، وأن لا يتفق الأفارقة جنوب الصحراء على كلمة واحدة،(مجلس السلم والأمن الإفريقي أمس) وأن يسارعوا بديلا عن ذلك بإعلان الحرب على بعضهم البعض، (احتمال قيام الإكواس بذلك يوم الخميس) ضد النيجر ومالي وبوركينا فاسو وغينيا وإفريقيا الوسطى، حتى تبقى النار مشتعلة لسنوات، ويبقى سكان الأدغال في أدغالهم يحترقون… وهكذا تبقى الحديقة الأوروبية جَنة، تُنقل إليها خيرات الأدغال سرا وعلانية على هامش الصراعات الدائرة بين أبنائها…هكذا يريدون لنا “الحياة”، اقتتال مستمر بيننا وخلافات لا تنتهي إلى يوم الدين… وهكذا يريدون لأنفسهم “الحياة” وفق نظرية الحديقة والأدغال…
ولكن الرياح تجري أيضا بما لا تشتهي السفن، ها هي نظرية “الحديقة والأدغال” تسقط اليوم على أعتاب “موسكو“، وغدا على أيدي أبطال دول الساحل وإفريقيا، وبعد غد، سيقُضى عليها نهائيا على أسوار حُراس سور الصين العظيم…
لقد أشار الرئيس “بوتين” في “مؤتمر موسكو للأمن الحادي عشر” المنعقد يوم ” الثلاثاء” 15 أغسطس الجاري، إلى ذلك بقوله، “ألاّ مجال لتضخيم جيوب “مناطق” صراعات طويلة الأمد في العالم أو تثوير نزاعات جديدة”، رابطا بين صب الزيت على النار في أوكرانيا، والسعي للقيام بذات الشيء في إفريقيا ودول الساحل من خلال الحرب المُزمَع القيام بها ضد النيجر، أو من خلال التفكير في ضم مجموعة الإكواس AUKUS التي أنشأتها الولايات المتحدة وبريطانيا مع أستراليا، جنوب آسيا، إلى الحلف الأطلسي وعززتها بالغواصات النووية، لتخويف كوريا الشمالية وزعزعة استقرار الصين، ولِمَ لا إشعال نار حرب بينها وجزئها الآخر في “تايوان”… وذكَّر وزير الخارجية “لافروف” بالحرف بالحديقة والأدغال في ذات المناسبة…
وهذا يعني أن السياسة القائمة على نظرية الحديقة والأدغال قد وجدت النقيض لها، ليس فقط من “موسكو” عبر الرد الآسيوي: الاتحاد الأوراسي، ومنظمة شنغهاي للتعاون، بل وفي الرد العالمي من خلال مجموعة “البريكس” التي ستتوسّع لأكثر من دولة، والمنظمات الإقليمية والجهوية التي باتت المساحة الفاصلة بينها وأصحاب الحديقة تتسّع (مجلس التعاون الخليجي، الاتحاد الإفريقي، الأمم المتحدة…)، وإذا أضفنا إلى هذا ما بات يعرفه سكان الحديقة من أمراض متعلقة بالشذوذ والتفسخ الأخلاقي وانتشار كافة الرذائل الحيوانية، يتأكّد لنا زيف نقاء الحديقة، وأن الزمن لن يطول لتعرف الانهيار الداخلي التام، النتيجة الحتمية لكل كيان غير طبيعي أراد أن يعيش على استغلال “غابة” الآخرين ونهب خيراتها، بل وحرقها ومنع أصحابها حتى من حق التفكير في أن يعيشوا سعداء بها، بعيدا عن جمال حديقته المزيّفة.
("الشروق" الجزائرية)