يبدو للأسف في ظلّ هذا التّغاضي وكأنّ إسرائيل في سبيلها لتأسيس منظومةٍ خاصّة بها للقانون الدّولي، وهي منظومة ذات جذور بعيدة تُمارِس بموجبها أعمالًا إجراميّة تحاول أن تُلبسَها لباسًا قانونيًّا، كما في التّوظيف الخاطئ لمبدأ الدّفاع عن النّفس، فتُعاقب أُسَر الّذين يقومون بأعمال مقاومة ضدّها بنسف بيوت أُسرهم واعتقال بعض أفرادها. وتضرب مخيّمات النّازحين في غزّة بدعوى وجود عناصر من المقاومة فيها، مع العلم بأنّها لم تقدِّم أبدًا أي أدلّة حقيقيّة على ادعاءاتها سوى القول بأنّها مبنيّة على "معلومات استخباريّة موثوقة"، وحتى لو كانت هذه الادّعاءات صحيحة فإنّ حقيقة أنّ معظم ضحاياها - إن لم يكن كلّهم - يكونون من الأبرياء، كما تُثبت ذلك صور عشرات الآلاف من النّساء والأطفال من هؤلاء الضّحايا.
ما فعلته إسرائيل في سوريا ينطوي على مبدأ شديد الخطورة تترتّب عليه تهديدات حقيقيّة للأمن العربي ككلّ
وقد وسّعت إسرائيل نطاق هذه الممارسات لاحقًا لتشمل لبنان إبّان المواجهات الأخيرة بالمنهج عينه، وهو قصف القرى والبنايات السّكنيّة بدعوى وجود عناصر للمقاومة فيها، وإذا كان مُمكنًا لإسرائيل أن تدّعي بأنّ جرائمها ليست سوى ممارسة لحقّ "الدّفاع عن النّفس"، على أساس أنّ المقاومة في غزّة هي التي بادرت بهجوم "طوفان الأقصى"، وأنّ عناصر المقاومة في الضّفّة قد انخرطت بدورها في عمليّات مقاومة، وأنّ المقاومة في لبنان قد أقحمت نفسها في "إسناد غزّة"، فإنّ ما فعلته مؤخّرًا في سوريا يحتاج وقفةً متأنّيةً لأنّه ينطوي على مبدأ شديد الخطورة تترتّب عليه تهديدات حقيقيّة للأمن العربي ككلّ، وليس في هذه الدّول تحديدًا.
فبمجرّد أنْ هوى نظام الأسد، سارع نتنياهو إلى اتّخاذ ثلاث خطوات تضرب كلّ منها في الصّميم مبادئ القانون الدّولي وقواعده؛ فأقدم أوّلًا على إلغاء اتّفاقية "فضّ الاشتباك" بين إسرائيل وسوريا التي وُقّعت عام ١٩٧٤ بوساطة أميركيّة، وتضمن الأمم المتّحدة تنفيذها، ومطلوب من أساتذة القانون الدّولي أن يُبيّنوا مدى الخطل في هذا التّصرّف، فتغيير نظام الحكم في دولة لم يبرّر أبدًا إلغاء الدّولة الأخرى لالتزاماتها الدّولية إزاءها، اللّهمّ إلّا إذا تبنّى النّظام الجديد سياسة معادية، وإسرائيل تعلم أكثر من غيرها أنّ قادة "جبهة النّصرة" - الحلقة السّابقة على "هيئة تحرير الشام" في منتجات الجولاني - "أصدقاء أعزّاء" منذ كان علاجهم من إصاباتهم في المواجهات مع الجيش السّوري يتمّ في المُستشفيات الإسرائيليّة، ناهيك بأنّ القادة الجدد في دمشق لم يصدر عنهم حرف حتى الآن ليس فقط عن فلسطين فليست أولويّة لهم الآن وهم يُثَبتون مُلكهم، وإنّما عن الانتهاك الإسرائيلي الفادح لسيادة بلدهم، وقد كان بمقدور إسرائيل لو كانت دولة طبيعيّة أن تتحسّب لما تدّعي أنّه خطر عليها، وتعزّز مثلًا قوّاتها على الحدود مع سوريا.
بينما الخطوة الثانيّة هي احتلال المنطقة العازلة وموقع جبل الشّيخ العسكري، وهو اعتداء صريح على السّيادة السّوريّة إن كانت لا تزال هناك أدنى قيمة لمبادئ القانون الدّولي وقواعده.
أمّا الخطوة الثّالثة، التي أَعتبرُها الأخطر من المنظور السّوري والعربي، فهي إقدام الجيش الإسرائيلي على تحييد الجيش السّوري تمامًا من خلال مئات الغارات الجويّة في واقعة غير مسبوقة في الصّراع العربي - الإسرائيلي، وربّما في تاريخ الحروب، وهي أن تقوم دولة بتدمير جيش دولة أخرى لمجرّد ادّعائها بأنّها تتخوّف من توجّهات النّظام الجديد.
المطلوب تقوية الدّفاعات العربيّة تحسُّبًا لمزيد من الغطرسة الإسرائيلية
فلم تكن هذه الخطوة كارثة على أمن سوريا التي فرّ قادتها السّياسيّون والعسكريّون فحسب، وإنما هي تُرسي مبدأً بالغ الخطورة لأمن أي دولة عربيّة ترى إسرائيل أن تطوّرات مهدّدة لأمنها قد حدثت داخلها، أي أنّ السكوت على هذا الفعل الإسرائيلي من شأنِه أن يعطي لإسرائيل حق الـ"فيتو" على أي تغيير داخلي عربي إذا رأت أنّه يهدّد أمنها، بل إنّ هذا المبدأ الخطير الذي تخلو منه أي قاعدة من قواعد القانون الدّولي، والذي يهدّد بفرض "سلام إسرائيلي" على الوطن العربي، يمكن لإسرائيل، إن أفلتت من العقاب، أن تطبّقه في حال إقدام أي دولة عربيّة ولو كانت بعيدة عنها على تطوير قدراتها العسكريّة.
أرجو أن يكون هذا المعنى الخطير لما فعلته إسرائيل بجيش سوريا حاضرًا لدى كل النُخب العربيّة الحاكمة، ومستدعيًا للدّعوة لتدارسٍ عربي رسمي ينجم عنه تفاهم حقيقي لمواجهة هذه التّطورات الخطيرة، وأتحدّث بطبيعة الحال عن مواجهة سياسيّة، لأنه ليس واردًا للأسف بالنّسبة للأوضاع العربيّة الرّاهنة أيّ نوع من المواجهة العسكرية، وإنّما المطلوب تقوية الدّفاعات العربيّة تحسُّبًا لمزيد من الغطرسة الإسرائيلية، وتتحمّل الدّول العربيّة الرئيسيّة مسؤولية خاصّة في هذا الصدد.
(خاص "عروبة 22")