لم تكن هذه الفصائل مجرّد مجموعات مسلّحة تقاتل الجيش النّظامي، بل إنّ البعض منها اتّخذ لنفسه مسمّى الجيش السّوري الذي تحوّل من "الجيش السّوري الحرّ" إلى "الجيش الوطني السّوري"، وهاتان الصفتان "الحرّية والوطنيّة" القصد أنّهما تنقصان الجيش النّظامي، مع ملاحظة إسقاط الانتماء العربي من الجيش المُوازي، وهذا بالتّأكيد ليس محض صدفة.
"الحرس الثّوري" امبراطوريّة كبيرة لها مؤسّساتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة
وعندما نتأمّل جذور ظاهرة الجيوش المُوازية سوف نجد أنّ بداياتها تعود إلى إنشاء إيران "الحرس الثّوري" كجيشٍ مؤسَّسٍ على الأساس الإيديولوجي الصّارم، وذلك تخوّفًا من أن يكون ولاء الجيش النّظامي لحكم الشّاه. ومع أنّ كلتا القوّتَيْن العسكريتَيْن، أيّ الجيش و"الحرس"، تدخلان في تشكيل القوّات المسلّحة الإيرانيّة، إلّا أنّ هناك فروقًا كبيرة بينهما، فـ"الحرس الثّوري" امبراطوريّة كبيرة لها مؤسّساتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، وهو الأكثر تسليحًا وتدريبًا والذي يقوم بتنفيذ المهمّات القتاليّة العسكريّة في الخارج تحت شعار "ردع المُستكبرين والدفاع عن المُستضعفين"!. والمهمّة الأخيرة تعدّ من ركائز السّياسة الخارجيّة للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة. وهكذا شكّل البُعد العقائدي مبرّرًا من مبرّرات نشأة الجيوش المُوازية، لكنّه ليس المبرّر الوحيد، فعندما نتأمّل منطقة الشّرق الأوسط التي تنتعش فيها هذه الظّاهرة، نجد مروحةً كبيرةً من الأسباب التي أدّت لظهورها.
هناك أولًا العامل المناطقي في تشكيل الجيوش المُوازية، بمعنى تكوين قوّة عسكريّة من أبناء منطقة معيّنة لمحاربة حركات التّمرد فيها وإعادة الاستقرار إليها من باب أنّ "أهل مكّة أدرى بشِعابها".
وفي هذا الإطار، جاءت نشأة قوّات "الدّعم السّريع" لمحاربة "متمرّدي دارفور" في غرب السّودان. ومع تزايد نفوذ هذه القوّات وتبلوُر مصالحها واتّساع قاعدتها الشّعبيّة أبَت تسليم سلاحها إلى الجيش السّوداني، بلّ استخدمَت سلاحها في محاربة هذا الجيش. ومع أنّ هذه النّتيجة كانت معروفة ومتوقّعة إلّا أنّ الإقدام على تشكيل "الدّعم السّريع" جاء من باب الأمل في أن تؤدّي المقدّمات عينها إلى نتائج مختلفة.
وهناك ثانيًا الرّغبة في تقليل احتمال الانقلابات العسكريّة في منطقة لها تاريخها الطّويل في الانقلابات والانقلابات المضادّة. وهكذا تأسّس "الحرس الجمهوري" في اليمن وعُهد بقيادته إلى ابن الرّئيس الرّاحل علي عبد الله صالح، ولئِن جادل البعض بأنّ "الحرس الجمهوري" جزء من الجيش اليمني، لكنّ وظيفته كانت تتلخّص في حماية الرّئيس. لاحقًا، أخذَت التّطوّرات اليمنيّة منذ عام ٢٠١١ الحرس الجمهوري في اتّجاهات مختلفة، من مُحاربة جموع اليمنيّين المحتجّين في الشّوارع، إلى الحرب في صفّ جماعة الحوثيّين، إلى الاختلاف معها.
ما حدث في العراق تكرّر في سوريا مع اختلافٍ في التفاصيل
ويقودنا ذلك إلى مناقشة التّعقيد الذي تتميَّز به الحالة اليمنيّة، إذ إنّه بالإضافة لـ"الحرس الجمهوري"، تساهل الرئيس صالح في بداية الأمر مع عسكرة جماعة "الشّباب المؤمن" باعتبار أنّها قد تتصدّى لتنظيم "القاعدة" في شبه الجزيرة العربية، فكان أن تضخّمت قوّة جماعة الحوثيّين وتحوّلت إلى جماعة "أنصار الله"، ولقيَ الرّئيس صالح حتفه على يديها.
وهناك ثالثًا عدم الاستقرار السّياسي الذي يسمح بتشكيل الجماعات المسلّحة، وفي هذا السّياق نشأت بعض الفصائل المسلّحة في ليبيا وسوريا.
حتى هذه النّقطة من التّحليل تبدو لنا نشأة الجيوش المُوازية ظاهرة داخليّة بحتة، وذلك نصف الحقيقة. أما النّصف الآخر فهو دور الخارج في تشكيل الجيوش المُوازية. عندما حلّ "الحاكم المدني" الأميركي الجيش العراقي في ٢٠٠٣ وأُعيد بعد ذلك تشكيله على أساس طائفي، سقطَت مدينة الموصل بمنتهى السّهولة على يد تنظيم "داعش". وتلك كانت هي الخلفيّة التي نشأ فيها "الحشد الشّعبي" وانخراطه بقوّة في تحرير الموصل، ثم رفضه لاحقًا أن يندمج في الجيش النّظامي. وفي الأثناء، ساهمَت الولايات المتحدة في تكوين جيوش مُوازية من المجموعات السّنّية تحت مسمّى "الصحوات" لمواجهة تنظيم "داعش"، هذا من دون الحديث عن الغموض الذي يكتنف العلاقة بين القوى الخارجيّة من جانب وهذا التّنظيم الإرهابي من جانب آخر. وما حدث في العراق تكرّر في سوريا مع اختلافٍ في التفاصيل. أجهزَت إسرائيل على سلاح الجيش السّوري بوحداتِه المختلفة، فالمطلوب أن تكون في الجوار الإسرائيلي المباشر دولة منزوعة السّلاح، اللّهمّ إلّا ما هو موجود بيد الجماعات المسلّحة.
عندما نشاهد هذه الغابة من الجيوش المُوازية في الشّرق الأوسط تبدو لنا الحاجة إلى إعادة تعريف مفهوم الدّولة
ولا ننسى أنّ إسرائيل وقفَت بالمرصاد لمحاولة العراق تطوير قدراته النوويّة واغتالت علماءه النوويّين أو تواطَأت على اغتيالهم. ثمّ إنّ بعض هذه الجماعات نفسها من صنع الخارج، ولا نحتاج إلى التفصيل في علاقة تركيا بـ"الجيش الوطني الحرّ"، فالعلَم التّركي الذي يرفعه هذا الأخير في كلّ شبر دخَله في سوريا يكفينا. وتقودنا نشأة "حزب الله" في لبنان إلى دور "الحرس الثّوري الإيراني" في تكوينه. ومنذ نشَأَ الحزب فإنّه انخرط في الحرب الأهليّة اللّبنانيّة واشتبك مع قوى سياسية مختلفة لكلٍ منها جيشها الخاص، وبالتّوازي مع ذلك انغمس الحزب في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ثم صار لاعبًا سياسيًّا أساسيًّا في السّاحة اللبنانية لنكون إزاء ظاهرة "حركات المقاومة" التي تلعب أدوارًا سياسيّة.
إنّ أحد التّعريفات البسيطة للدّولة هو أنّها الجهة التي تحتكر استخدام السلاح، وبالتّالي فعندما نشاهد هذه الغابة من الجيوش المُوازية في الشّرق الأوسط تبدو لنا الحاجة إلى إعادة تعريف مفهوم الدّولة ولو من باب الاتّساق مع الواقع.
(خاص "عروبة 22")