على الرّغم من أنّ الذهاب إلى تطبيع حياة السّوريين في الجوانب المعيشيّة واليوميّة، سوف يُلقي بأعبائه الثّقيلة عليهم في المستويَيْن العامّ والخاصّ من حيث دور السّلطات في المستوى الأوّل ودور المواطنين في المستوى الثّاني، لكنّ أَثَرَ ما سبق في حياة السّوريّين، سيكون أقلّ ممّا تفرزه نقاط توتّر تحيط بهم، لها عميق الأثر في وضعهم الرّاهن، تتعلّق باستقرار ومستقبل سوريا والسّوريّين، وتوفير الأمن والأمان في بلدهم، ومن دونهما لا يمكن الحفاظ على ما تحقّق، ولا التّقدّم باتجاه المستقبل.
أوّل وأهمّ نقاط التّوتّر الرّاهنة، يُجسّدها الارتباك والتشوّش السّياسي، وهي حالة ممتدّة في أغلب الاتجاهات والمستويات منذ انتكاسات المُعارضة والحِراك الثّوري عام 2013 واستمرارها بعده، وكان يُفترض أن يخفّ في ضوء سقوط نظام الأسد، وبدء عهد سوري جديد قدّم تطمينات، وقام بخطوات وإجراءات لا شكّ في أهمّيتها، لكنّها لم تكن كافية، بل مرتبكة من وجهة نظر قطاع سوري مهمّ على نحو ما بدأ تسليم حكومة الانقاذ في إدلب مهمّات الحكومة السوريّة الجديدة، والطبيعة المشوّشة حول مفهوم الدّولة السّورية المقبلة الموصوفة بأنّها "تعدّدية بمرجعيّة شرعيّة"، ولعلّ الأهم عدم إعلان السّلطة الجديدة خطابًا وبرنامجًا سياسيًّا شاملًا، يُبيّن طبيعة النّظام المقبل وملامح سياسته.
عشرات الآلاف يُشكّلون نواةً صلبة من بقايا النّظام البائد يزيد من خطرِها أنّ لديها خبرات أمنيّة وعسكريّة وقدرات ماليّة
ثاني نقاط التّوتّر، تعدّد سلطات الأمر الواقع. وباستثناء السّلطة الجديدة في دمشق، والّتي تتمتع بأفضل مستوى في تلك السّلطات بما لها من مُنجز إطاحة النّظام والسّيطرة على مؤسّسات الدّولة السّورية وعاصمتها، وبما صار لها من مكانة وعلاقات في المستويَيْن الدّاخلي والخارجي، فإنّ حيّزًا مهمًّا من السكّان والأراضي والقدرات السّوريّة، تحت سيطرة الإدارة الذّاتية في شمال شرق البلاد، وقسمًا آخر تحت سيطرة الحكومة السّوريّة المؤقتة والقوّات التّركية في شمال غرب البلاد. والطّبيعي أنّ إنضاج تسوية تضع حدًّا لتعدّد سلطات الأمر الواقع، ليس من أجل رفع خطر التّقسيم فقط، إنّما من أجل صياغة استراتيجيّات وتطبيق سياسات لسوريا الموحّدة والجديدة، وهو الأمر الذي تتمّ متابعته حاليًّا وفق إعلانات الحكومة في دمشق.
التّدخّلات الخارجيّة سوف تسبّب مشاكل وارتباكات في المستويَيْن الرّسمي والشّعبي في واقع سوري هشّ وضعيف
نقطة التّوتّر الثّالثة في الواقع السّوري الحالي، ضرورة متابعة ومعالجة أوضاع القوى الأمنيّة والعسكريّة التي كانت لنظام الأسد، واختفت فجأة من اللّوحة السّوريّة. ولتقدير أهمية ما يسبّب ذلك من توتّر في الواقع السّوري، يكفي تذكّر أنّ منتسبي تلك القوى يبلغون مئات آلاف الأشخاص، بينهم عشرات الآلاف يُشكّلون نواةً صلبة من بقايا النّظام البائد، وقد أخذ بعض تعبيراتهم يُطلّ برأسِه القبيح على المشهد السّوري، ويزيد من خطرِها أنّ لديها خبرات أمنيّة وعسكريّة وقدرات ماليّة ومعلومات، وهي منتشرة في مختلف الأماكن.
وتمثّل التّدخّلات الخارجيّة النّقطة الرّابعة في التّوتّر السّوري. وهذه التّوتّرات محسوبة من مصدرَيْن، أوّلهما صديق في مقدمته التدخّلان العربي والتّركي، والثاني عدو تُجسّده تهديدات إيران التي ما زالت ماثلة عبر العراق شقيق وجار سوريا في الشّرق، وما لها من خلايا نائمة في سوريا، إضافة إلى إسرائيل وما تقوم به من أعمال عدائيّة في الجولان، وقصف وتدمير في عمق الأراضي السّورية، ولا شكّ أنّ التّدخّلات الخارجيّة سوف تؤثر سلبًا، وتسبّب مشاكل وارتباكات في المستويَيْن الرّسمي والشّعبي في واقع سوري هشّ وضعيف.
المطلوب توفير مساحات أوسع بين الحكومة والشعب لبناء المشتركات والتفاعل
وسط تلك المجموعة من نقاط التّوتّر المُحيطة، تفرض الحالة ضرورة انتباه وصحوة سوريّة في المستويَيْن الشّعبي والرّسمي، تشمل الانتباه والتّدقيق واستنفار الإمكانات وتعزيز القدرات لتوفير أعلى قدر من الاستعداد للمواجهة مع احتمالات التّوتّرات، من دون أن يؤدّي ذلك إلى تقييد طاقة وقدرة جناحَيْ سوريا حكومةً وشعبًا، لأنّ المطلوب توفير مساحات أوسع بينهما لبناء المشتركات والتفاعل، طالما أنّ كلًّا منهما يضع قلبه على سوريا ومستقبل السّوريّين الأفضل.
(خاص "عروبة 22")