عاد الحديث عن "مخطّط التّقسيم" عقب سقوط نظام بشار الأسد، وأنّ ما ارتكبه هذا النّظام من جرائم وما دفعه الشّعب السّوري من أثمانٍ باهظة من أجل نيْل حرّيته لا يستحقّ أن يُلقى عليه الضّوء أمام ما اصطُلح على تسميته بمخطّط التّقسيم الذي أعدّته أميركا وإسرائيل وفق مخطّط استعماري قديم وثابت، وهو الكلام عينه الذي سبق وتردّد عقب الغزو الأميركي للعراق في ٢٠٠٣ وسقوط نظام صدّام حسين، وأيضًا عقب سقوط نظام معمّر القذّافي ثم سقوط عمر البشير في السّودان، وكذلك عقب حرب لبنان.
نظريّة "تقسيم المُقسّم" لو حدث وتحقّقت في بعض البلاد فسيكون بسبب أوضاعها الدّاخلية وانقسامها المُجتمعي
واللّافت أنّ العراق لم ينقسم وظلّ كيانًا واحدًا، صحيح أنّه أعطى بحكم الواقع حكمًا ذاتيًّا للأكراد ولم تسمح تركيا ولا الدّاخل العراقي بأن يتحوّل إلى دولة مستقلّة، وحتى ليبيا التي تشهد انقسامًا بين الشّرق والغرب لم تنقسم على الرّغم من أنّها تاريخيًا كانت مقسّمة لثلاث مناطق. أمّا لبنان الذي دخل في حروب أهليّة ويعرف انقسامات مذهبيّة ومناطقيّة فلم يحاول أحد أن "يُقسَّم المُقسّم" فيه على الرّغم من أنّ هذا المُقسّم موجود ولو بدرجة. والسّودان لم يكن يحتاج إلى تدخّل خارجي لينقسم جنوب السّودان، إنّما كان بسبب رفض أهله البقاء في دولةٍ دينيّة متشدّدة، ودخل بعد ثورته في حربٍ دمويّة بين الجيش و"الدّعم السّريع" نتيجة الصّيغة الكارثيّة التي تركها نظام البشير وهي وجود الجيش النّظامي وبجانبه قوّة مسلّحة موازية هي "الدّعم السريع" وليس بسبب وجود مخطّط استعماري للتّقسيم إنّما وجود أطراف داخليّة تسعى للسّيطرة والحكم.
الحقيقة أنّ الغرب الاستعماري لم يعد يحتاج لكي يحقّق مصالحه ويضمن هيمنته، إلى نظريّة "تقسيم المُقسّم"، وهذه النّظرية لو حدث وتحقّقت في بعض البلاد فإنّه سيكون بسبب أوضاعها الدّاخلية وانقسامها المُجتمعي لأنّ الغرب تجاوز هذه المرحلة، وبات يفضّل أن يسيطر على دول غير منقسمة، ولكنّها متوائمة مع استراتيجيّته الكونيّة ولا تتناقض مع مصالحه الكبرى.
والحقيقة أيضًا أنّ البلاد العربيّة الّتي شهدت مواجهات أهليّة وثوراتٍ مسلّحة صدّرت لأوروبا عشرات الآلاف من اللّاجئين، كما أنّ البلاد التي عانت من أزمات اقتصاديّة وسياسيّة وانقساماتٍ عِرقيّة أو مذهبيّة صدّرت أيضًا آلاف المتطرّفين والإرهابيّين إلى كل العالم من دون أن تنقسم إلى دويْلات، فما بالنا لو انقسمت.
الدّول الكبرى باتت تمتلك أدوات اقتصاديّة وسياسيّة للسّيطرة على الدّول من دون الحاجة لتقسيمها
هل كان الغرب سيكون سعيدًا أن يؤسِّس "داعش" أثناء حقبة سيطرته السّوداء على مدينة الرّقّة السّوريّة إمارةً أو دويلةً مستقلّة؟ والأمر عينه أثناء سيطرة "هيئة تحرير الشّام" على إدلب، فعلى الرّغم من وجود قنوات اتّصال مع الغرب، لم يشجّعهم أحد على إنشاء كيان مستقلّ أو دولة مستقلّة، قبل إسقاطها للنّظام.
لقد أرسلت الأمم المتّحدة والولايات المتّحدة مبعوثين دوليّين إلى دول الصّراع المسلّح في عالمنا العربي من سوريا إلى ليبيا وحتى السّودان وجميعهم لم يسعوا إلى تقسيم هذه الدّول، بل على العكس عملوا على الحفاظ على وحدتها ليس بالضّرورة بسبب نُبْل المقاصد، إنّما لأنّ مصالح الدّول الكبرى لم تعد تحتاج إلى استدعاء نظريّة "تقسيم المُقسَّم وتجزئة المجزَّأ" إنّما باتت تمتلك أدوات اقتصاديّة وسياسيّة للسّيطرة على الدّول من دون الحاجة لتقسيمها.
معضلة تصوّر "تقسيم المُقسَّم" أنّه يستسهل الأمور ويقيس على ترتيبات قديمة وينسى أو يتناسى أنّ الغرب طوّر أدواته، ولم يعد يستخدم الأدوات عينها التي استخدمها أثناء الاستعمار المباشر في بدايات القرن الماضي.
إنّ أضرار تقسيم الدّول العربيّة إلى دويلات، أكبر بكثير على الغرب من أن تبقى كما هي دولًا ضعيفة داخليًّا وهامشيّة التأثير خارجيًّا، وإنّ سيناريو تقسيمها مرادف للفوضى والإرهاب واللّاجئين وهي ظواهر لم يعد الغرب قادرًا على تحمّلها.
يحتاج البعض في عالمنا العربي إلى مراجعة بعض المفاهيم التي راجت وبَدَت كأنّها حقائق
نعم يمكن القول إنّ أميركا لا يعنيها أن يبني العرب دولة قانون أو ديموقراطيّة، ولا يعنيها وجود الاستبداد والدّيكتاتوريّة، إنما ما يعنيها ألا ننقسم ونكون مصدرًا للإرهاب واللّاجئين، وألّا تُقْدِم أي دولة على مواجهة إسرائيل أو الاشتباك مع المنظومة الأميركيّة الدّاعمة لها.
يحتاج البعض في عالمنا العربي إلى مراجعة بعض المفاهيم التي راجت وبَدَت كأنّها حقائق في حين أنّ أميركا وإسرائيل لم يتوقّفا عن استهداف العالم العربي لكن بأساليب جديدة، وفي بعض الحالات أكثر قسوة ودمويّة كما تفعل إسرائيل في فلسطين ولبنان وسوريا، ولكن ليس بينها بالضّرورة "تقسيم المُقسَّم وتجزئة المجزَّأ" لأنهم باتوا يمتلكون أدوات أحدث وأكثر نجاعة ومخاطرها أقلّ.
(خاص "عروبة 22")