تحمل عبارة / كلمة "القومية العربية" ذاكرة تخصّ مجموع التجارب الخاصة بالشعوب العربية، وهي تجارب صارت متأقلمة ومتضمّنة في المصطلح نفسه، فالقومية العربية تخلّت عن العديد من صفاتها جراء الممارسة الاجتماعية والسياسية، وهي صفات كانت تشرعن وجودها فيما قبل، لكنها لم تعد قابلة للتناول بالكيفية نفسها راهنًا، رغم أنّ هذا التغيّر لم يُلغ تلك الصفات السابقة التي ظلّت ثانوية خلف المفهوم، بل لنقل إنه حمل معاني أبعد مما كان عليه، غير أنّ في وجداننا العربي نغلب دلالة الوحدة، والمصير المشترك، والأشقاء، والاتحاد. هذا التغليب ناتج عن التجربة الزمنية الماضية ولا يشرعن بشكل واقعي فعالية المفهوم حاضرًا، لأنّ دلالة القومية اليوم تعيش على ضبابية التحديد شكلًا ومضمونًا.
نتساءل هنا: عن أيّ قومية نتكلّم، ما الغاية من ترديدها دون تفعيلها، هل الانتظارات الماضوية القائمة على وحدة عربية لا زالت ممكنة اليوم، أم أنّ الأمر لا يعدو أن يكون آمالًا ماضوية ترى تاريخ الثقافة العربية ثابتًا قابلًا لإعادة استدعاء نوستالجيا انتظاراته؟
استرجاع الخطاب القومي الماضوي أشبه بمحاولة لتحقيق التطلعات الحاضرة ضمن التجربة المفهومية الماضية
القومية العربية تاريخ، فلا مجال للقول إنّ دلالة القومية العربية في الحاضر عينها القومية التي ولدت في فترات القرن العشرين، لمجرد أنّ الانتظارات نفسها لا زالت ملتصقة بأذهان الشعوب العربية، أو لمجرد أنّ المنطلقات التي قامت عليها خلال التجارب الزمنية السابقة ما برحت مكانها، لأنّ أنظمة القيم والنماذج الإرشادية والتطلعات المجتمعية نفسها تخضع لمنطق التغيّر، فالمفاهيم والأفكار تتغيّر من طور دلالي أو مضموني إلى آخر، وفي عملية الانتقال الدلالي هذا ترسم تميّز العتبات التاريخية عن بعضها.
بالعودة إلى صيرورة القومية العربية نجد أنّ المصطلح تمّ صبغه في مرحلة ما بالصبغة السياسية، شحنة ارتبطت بتجربة زمنية رسمتها حمولة لغوية وخطابية لقومية عربية، وربما هذه الشحنة هي التي ظلّت مرادفة للمفهوم في ذهن الشعوب، رغم تغيّر ملامح التجربة الزمنية، لأنّ استرجاع الخطاب القومي الماضوي في كلّيته أشبه بمحاولة لتحقيق التطلعات الحاضرة ضمن التجربة المفهومية الماضية.
ما نعانيه اليوم هو أزمة التعاطي مع تاريخنا المفاهيمي، أزمة تطال بنية معجمنا اللساني المشكّل لصيرورتنا التاريخية مما يُفقدنا قراءة نقدية فاعلة لخطاب الفعل المؤسّس للأنظمة التاريخية لمجتمعاتنا، فما السبيل لتفعيل ذلك؟
في إطار التأسيس لأنثروبولوجيا التاريخ المرتبطة بالمجال الاجتماعي والسياسي يمكن تناول التاريخ المفاهيمي وفق ثلاث نقاط:
1- تعقّب تاريخ الكلمات والمفاهيم عبر اتباع الطريقة النقدية في رصد تاريخيته السوسيوسياسية، مما يسهم في تحقيق فعالية/ نجاعة في قراءة التاريخ المفاهيمي المشكّل لوعينا الراهن، فعندما ننكب على تحديد تاريخ صيرورة الشبكة المفهومية المشكّلة لهويتنا العربية مثل القومية العربية، الوحدة العربية، المصير المشترك، الأشقاء العرب، الاتحاد العربي، نكون أمام رصد تجارب تعكس زمنية تاريخية بخصوصية متغيّرة لمفهوم واحد، الأمر يساهم في إزالة ضبابية التعاطي مع الآمال المرجوة حاضرًا ومستقبلًا، وفي عملية تشخيصها إمكانية تفعيلها.
2- التاريخ المفاهيمي يؤسّس لمبحث مستقل بذاته، لكن مع ذلك يتمّ تعريفه بشكل متواز مع التاريخ الاجتماعي، وهذه الإشارة هي التي ميّزت مبحث التاريخ المفاهيمي في إطار تمييز خطاب الفعل عن سوابقه اللغوية (رصد مراحل تشكّل خطاب الفعل)، على غرار التاريخ الاجتماعي في تمييزه ما بين الحدث والبنية، حيث يخلق تداخل جزئي بين المبحثين، فخطاب الفعل الخاص بالقومية العربية مثلًا يشير إلى امتداد تاريخي، كما أنه يعكس في الوقت نفسه السياق الاجتماعي والسياسي الذي ينتمي اليه، قد يحمل شحنة إضافية عند دول وفق التجربة التاريخية لصيرورة المفهوم الخاص بها (مصر/ فلسطين/ سوريا/ العراق مثلًا) ويغيب أو تقلّ إلحاحية مطلبه بشكل ما عند دول أخرى رغم أنّ خطاب الشمل أو المصير العربي المفترض يجمعهما معًا.
3- إنّ ما يميّز العلاقة ما بين المفهوم والواقع هو تاريخ صيرورة المفهوم اجتماعيًا وسياسيًا، وأثير هنا نموذج عمل راينهارت كوزيليك تحت عنوان "تجربة التاريخ" حيث رصد صيرورة المضامين اللغوية من الناحية السيوسيوسياسية لعدة مفاهيم من قبيل الزواج، النصب التذكارية، الموت، في إطار اعتبارها شواهد على تجارب زمنية تسطّر لتغيّر الحقب الزمنية.
(خاص "عروبة 22")