وجهات نظر

ماذا يفيد الاقتصاد... حماية الدين أم حرية التعبير؟

أثارت موجه حرق المصاحف في السويد والدنمارك هذه الأيام موجة ردود أفعال رسمية وشعبية، ومعها تجدّد النقاش حول أين تنتهي حرية التعبير وأين تبدأ الإساءة إلى الآخرين، وهل القوانين عليها أن تجرّم الإساءة إلى الأديان؟ وهل القانون يحمي الأشخاص أم عليه أن يحمي الأديان كذلك؟

ماذا يفيد الاقتصاد... حماية الدين أم حرية التعبير؟

أثير مجددًا الحديث عن القوانين التي تقيّد حرية التعبير من أجل منع الإساءة إلى الرموز الدينية والأشخاص والأشياء المقدّسة أي قوانين منع الإساءة الدينية (Blasphemy) وكذا قوانين تجريم التخلي عن الدين (Apostasy)، وهي قوانين موجودة في عدد من البلدان في العالم. لكن المثير للاهتمام لدى الملاحظين الغربيين هو أنّ نسبة البلدان العربية هي الأعلى من بين البلدان من حيث وجود قوانين حماية الأديان من الإساءة إليها ومن التخلّي عنها.

والسؤال هنا هو هل تميّز العالم العربي بوجود قيود على حرية التعبير حمايةً للدين أكثر من باقي مناطق العالم؟ هل يعزّز لديه القدرة على التنمية الاقتصادية أم يشكّل تهديدًا للنمو الاقتصادي الهش أصلًا؟ ومن يحتاج إلى حماية، هل هي الأديان أم حرية التعبير؟ وما هو العامل الأكثر تأثيرًا على رفع التحديات الاقتصادية؟ هل هو حماية القانون للدين أم حماية القانون لحرية الأفراد؟

العالم العربي ليس أمامه التحدي الديني... لكن أمامه تحديات اقتصادية أهمّ

حسب دراسة أعدّها مركز "بيو" (PEW) الأمريكي الشهير سنة 2019 المختصّ في المسوح الدولية للآراء واتجاهات الرأي العام الدولي حول مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإنّ 4 من أصل 10 بلدان في العالم، أو 79 من 198 بلدًا في العالم، لديها قوانين وسياسات تجرّم الإساءة إلى الأديان.

لكنّ العدد الأكبر موجود في العالم العربي حيث إن 90 بالمئة من البلدان الواقعة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (18 بلدًا) لديها قوانين وسياسات ضد الإساءة إلى الأديان بينما تتراوح النسبة في المناطق الأخرى من العالم بين 31 بالمئة (بلدان أوروبية)، و34 بالمئة (منطقة آسيا ـ الباسفيك ومنطقة الأمريكيتين) و38 بالمئة (بلدان إفريقيا جنوب الصحراء).

كما أنّ قوانين تجريم التخلي عن الدين موجودة في عدد من البلدان حيث إن 11 بالمئة من بلدان العالم (22 بلدًا) لديها قوانين ضد التخلّي عن الدين، لكنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحوز على النسبة الأكبر، حيث إن 65 بالمئة من البلدان العربية (13 بلدًا) لديها قوانين تجرّم التخلّي عن الدين في مقابل 14 بالمئة من بلدان جزر الباسيفيك (7 بلدان) و4 بالمئة من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء (بَلَدان).

العالم العربي ليس أمامه هذا التحدي الديني الذي هو رفع ترتيبه في سلّم الحرية الدينية وحسب، لكن أمامه تحديات اقتصادية أخرى أهمّ، من قبيل تنويع مصدر الدخل القومي بعيداً عن الطاقة فقط، ورفع المخزون من الرأسمال البشري المؤهل، وتسهيل مناخ الأعمال، ولكن رفع هذه التحديات الاقتصادية يتطلّب رفع تحدي الحرية الدينية كذلك.

إنّ النموّ الاقتصادي يتطلّب بيئة سياسية وقانونية تسمح للجميع أن يشارك من خلال الرأسمال أو العمل، سواءً في القطاع الربحي أو غير الربحي، دون تمييز بين المواطنين على أساس الدين ودون تحرّش ديني من الذين لديهم سلطة على الذين ليس لديهم سلطة، مع ضمان الحرية الدينية للجميع في العالم العربي، ودون تحرشات اجتماعية من المواطنين الآخرين حتى يتمكّن الجميع من المساهمة في رفع مستويات النمو الاقتصادي وينعم الجميع بالرفاهية.

الأديان هي من عليها حماية القوانين حتى تضمن حقوق البشر في الكرامة والحرية والملكية

على صعيد آخر، معلوم أنّ العالم العربي هو منطقة شهدت ميلاد ونموّ ثلاث ديانات كبرى، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام، في مصر وفلسطين والحجاز. وأعطت هذه الأديان للعالم من خلال تقاليدها وتعاليمها قيمًا دافعت عن كرامة الإنسان وحرمته وحريته في التملّك لم تكن مسبوقة. وكافح المؤمنون الأوائل في كل تلك الأديان عن حرية الخروج من دين قديم والدخول في دين جديد، والقرآن يحتفي بفتية أهل الكهف وهم شباب مسيحيون هربوا من الاضطهاد الروماني إلى كهف، وبعد أن خرجوا منه وجدوا أنّ المسيحية أصبحت دين الإمبراطورية الرومانية. ولو استمرّت القوانين المقيّدة لحرية الدين في الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية التي كانت تسيطر على الشرق الأوسط ما استطاع العالم أن ينعم بالخير والسلام والكرامة والحرية التي أتت بها الأديان الثلاثة التي جاءت من نسل إبراهيم.

حمداً لله، بدأ العالم العربي يتغيّر حيث شهدت السنوات الأخيرة سياسات عربية جريئة من أجل نشر قيم التسامح والاحتفاء بالتنوّع الديني فظهرت مؤسسات حكومية وغير حكومية جديدة مثل مركز الملك عبد الله العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات (كايسيد) في 2007 ومنتدى أبو ظبي للسلم والمنظمة غير الحكومية (AISA) وهي منظمة من خلفية صوفية كانت وراء مبادرة 16 يومًا دوليًا للعيش معًا في سلام، التي تبنّتها الأمم المتحدة في 2017، وهي مؤسسات ثقافية تدعم مبادرات محلية ودولية في كل بلدان العالم من أجل استئناف نشر رسالة المحبة والسلام التي انطلقت من هذه المنطقة منذ عدة قرون قبل غيرها من المناطق في العالم.

الأديان ليست في حاجة إلى حمايتها من حرية التعبير، ولكن الأديان هي من عليها حماية القوانين حتى تضمن حقوق البشر في الكرامة والحرية والملكية، تلك الحقوق التي كانت هبة من الله ولم تكن منحة من أحد. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن