معايير إسرائيل العبثية

خطفت الأحداث المتلاحقة في لبنان وسوريا الاهتمام من غزة إلى حد كبير لقرابة ثلاثة أشهر. ورغم أن شيئاً لم يتبدل في وتيرة الاستهداف الإسرائيلي لغزة وسكانها، بل ربما زادت قسوتها، ورغم أن القطاع كان مبتدأ ما يتوالى من أحداث في المنطقة، فإن أخباره توارت بحكم درامية ما شهدناه في الساحتين اللبنانية والسورية، وربما قطع الاعتياد حبل المتابعة لما يجري للفلسطينيين في غزة من مآسٍ أعجزت محاولات وصفها أحياناً، لكنها لم تنخفض على لسان منظمات أممية ومسؤولين من كل اتجاه عن مستوى الوحشية وغالباً ما ارتقت إلى درجة الإبادة.

لم ترضَ إسرائيل أبداً بهذه الأوصاف، ولو في حدّها الأدنى المطالب بتغليب المعايير الإنسانية، حتى في ظل اشتداد الصراع مع "حماس". ولم تترك إسرائيل جهة أو أحداً ينتقد مسلكها في غزة إلا وكان ردّها ترهيباً واستهدافاً بالقول والفعل.

المستهدف هذه المرة البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، الذي وصف ما يتعرض له أطفال غزة بالقسوة، خاصة أنهم مستهدفون في المدارس والمستشفيات. وبمنطق إنساني، وقف الرمز الديني الشهير عند إزهاق أرواح سبعة أطفال من عائلة واحدة في قطاع غزة، وكيف أن ذلك ليس حرباً، بل قسوة مسّت قلبه.

ليس هذا الموقف الأول للبابا بشأن غزة منذ اندلاع الحرب عليها، وقبل شهر قال في مقتطفات من كتاب له، إن المجتمع الدولي مطالب ببحث ما إذا كانت أفعال إسرائيل في غزة ترقى إلى درجة الإبادة الجماعية بتعريفها القانوني.

وربما لأنه يعلم أن المجتمع الدولي لن يفعل شيئاً، ورغم الاعتراض الإسرائيلي على ما قاله، احتكم البابا في تصريحاته الأحدث إلى الضمير الإنساني، وعبّر عن مأساة أطفال غزة كما يراها قلبه وقلوب الجميع إلا ممثلي السياسة الإسرائيلية الذي اتهموا الرجل هذه المرة بازدواجية المعايير، واستهداف "الدولة اليهودية" وشعبها، وعدم إدراك أنها في حرب فقط على الإرهاب.

ولا أحد يعلم أيّ مدى يمكن أن تبلغه الاتهامات الإسرائيلية للبابا إذا كرّر التعبير عن موقفه المتعاطف مع أهل غزة، خاصة الأطفال، فربما ترميه مباشرة بتهمة التشجيع على الإرهاب أو تجرّده من مكانته الروحية، رغم أنه هبط بوصفه من الإبادة الجماعية إلى القسوة.

يبدو أن إسرائيل كانت مرتاحة إلى تحول الأنظار من غزة إلى لبنان ثم سوريا، والانشغال بمن تستهدفه بعدهما، وحدود توسعها الإقليمي، لكن البابا أفسد جزءاً من ذلك حين أشار مجدداً، وبما له من قيمة، إلى مأساة غزة وتحديداً أطفالها، فكان جزاؤه الاتهام بازدواجية المعايير.

والمعايير محمية دوماً بالرغبات الإسرائيلية، فلا هي ترتضي الاحتكام إلى قانون دولي أو إجماع إنساني في وصف ما يجري في غزة وإدانته، ولا تقبل إلا بآراء تتبنّى موقفها فقط، وإلا طاردت من يخالف. هكذا فعلت مع الأمين العام للأمم المتحدة وغيره من مسؤولي مؤسساتها، وها هي تعيد الأمر مع البابا.

(الخليج الإماراتية)

يتم التصفح الآن