ليس ذلك قدَرًا لا مردّ له، وإنما هو إمكانات فُتِحت أمام النّاس في كلّ البلدان على اختلاف هُويّاتها الوطنيّة أو الدّينيّة. ولذا نجد أنّ الكلّ يتأثّرون بالحضارة القائمة، إيجابًا أو سلبًا. والكلّ ينخرطون في أجوائها ويشاركون في صنعها وتطويرها، أو في نقدها للحدّ من مساوئها وأضرارها. هذا ما فعلته البرازيل وماليزيا وجنوب أفريقيا، ثم الصّين. وها هي الهند تلحق بالصّين.
لنتوقف عند الصّين، فهي لا تضع حضارتها في مواجهة الحضارة الغربيّة، بل تنافس هذه على أرضها وفي عُقر دارها، بالاختراعات والإبداعات في هذا المجال أو ذاك، في اقتصاد المعرفة والإنتاج النّاعم والإدارة الإلكترونيّة، كما في الذّكاء الاصطناعي والحرب السيبرانيّة. وهي في ذلك كلّه لا تتخلّى عن هُويّتها الوطنيّة أو الثّقافيّة.
المسلم يحوّل هُويّته إلى متاريس عقائديّة ترتدّ عليه عوائق ومآزق
وحدهم المسلمون هم الاستثناء. إنّهم يستخدمون ثمرات الحضارة القائمة بأدواتها وأسلحتها، بشبكاتها وأجهزتها، ولكنّهم يصرّون على المستوى الفكري، بالتشبّث بثقافتهم، لا بجانبها التّنويري والعقلاني، بل بجانبها الدّيني، الأصولي والأحّادي، كما تفعل الحركات الدّعويّة والمنظّمات الجهاديّة، بطرحها لشعار "الإسلام هو الحلّ" في مواجهة التّحدّيات الجسيمة والتحوّلات الهائلة.
وتلك هي إشكاليّة المُسلم الّذي يتشبّث بهُويّته الدّينية ويتنكّر للثّقافة الحديثة أو للحضارة الغربيّة. إنّه يمارس الزّيف الوجودي. ويحوّل هُويّته إلى متاريس عقائديّة ترتدّ عليه عوائق ومآزق.
ومع ذلك، ثمّة من يتباهى بالحضارة الإسلاميّة. ويتشدّق بالدّفاع عن مزاياها في مواجهة الحضارة الغربيّة الحديثة. ولنقارِن بين الزّمنَيْن الفرنسي والإيراني، كما تقدّم لنا الشّهادة البليغة والفاضحة، مدينة بيروت الشّهيدة الحقيقيّة، التي تحوّلت إلى رهينة وضحيّة.
تحوّل لبنان في زمن المُرشد الإيراني إلى ساحةٍ مفتوحة وسائبة للميليشيات والمافيات والعصابات
ففي الزّمن الفرنسي، شهِد لبنان عهدًا من عهوده هو الأنفع والأفضل والأرقى في كلّ المجالات، في السّياسة والإدارة، في الأمن والقضاء، في الحقوق والحرّيات، في الثّقافة والمعرفة، كما في التّعليم بمختلف مستوياته. بينما تحوّل لبنان في زمن المُرشد الإيراني ووكيله اللّبناني، إلى ساحةٍ مفتوحة وسائبة للميليشيات والمافيات والعصابات الّتي تنتهك حدوده وتعبث بأمنه، أو تُزعزع استقرارَه وتدمّر مؤسّساته، أو تُهدر موارده وتنهب أمواله.
هذه هي الحصيلة بعد ربع قرن من احتفاء محور المُقاومة بالنّصر الإلهي: "وصول لبنان إلى دماره الذّاتي". ولا غرابة. فالمقاومة لم تكن وسيلةً للتّحرير الوطني أو السّياسي، بل كانت نهجًا للحياة وعنوانًا للهُويّة، سمّوها "ثقافة المقاومة". أمّا لبنان، فكان هو الأداة والوسيلة، أي الضّحيّة والرّهينة، بقدر ما تمّ التّعامل معه كمسرح وملعب أو كساحة ومنصّة لأجندات مشبوهة واستراتيجيّات قاتلة.
التّحرير تحوّل إلى احتلال والمقاومة إلى استضعاف والممانعة إلى استكبار والاصلاح إلى فساد
وهكذا فقد تُرجمت العناوين بأضدّادها من جانب الّذين قبضوا على السّلطة في لبنان. فالتّحرير تحوّل إلى احتلال، والمقاومة إلى استضعاف، والممانعة إلى استكبار، والاصلاح إلى فساد. بذلك قدّم لبنان، بلد المقاومة والممانعة، الشّاهد البليغ والفاضح، إذ هو عرف أسوأ عهوده بعد التّحرير المفخّخ والنّصر الخادع. وكأنّه لم يكن يكفي هذا البلد ما عاناه في عهود المقاومات الوطنيّة والفلسطينيّة والعربيّة، من أهوالٍ ومآسٍ. فها هو يتحوّل مع "حرب المشاغبة" في الكثير من مدنه وبلداته الى رُكام وأشلاء، على شاكلة غزّة.
كفانا تشبيحًا باسم الكُتب الدّينيّة والنّصوص المقدّسة
لنَفِق من السّبات الدّيني. كفانا تأليهًا وعبادةً وتقديسًا، لنحصد المزيد من البربريّة. كفانا تشبيحًا باسم الكُتب الدّينيّة والنّصوص المقدّسة. فالمهمّة لدى الانسان ليس الصّعود إلى السّماء، بل صناعة السّلام على هذه الأرض. وبداية السّلام أن نقتنع بأنّه لا أحد في هذا العالم يشبه أحدًا، ولا شيء في هذا الكوْن يشبه سواه.
ولذا فالهويّات والوحدات هي خلق وصناعة وتحويل أو تركيب وتجاوز وبناء، بقدر ما هي تداول حرّ أو تبادل مغنٍ أو تفاعل مثمر. نحن مجرّد علاقتنا وروابطنا بالآخر، أو بالأرض وبقيّة الكائنات.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")